مثلما أحدث التطور التكنولوجي في السنوات الأخيرة تسارعا في تدفق المعلومات والتحكم في التقنيات عبر المؤسسات والهيئات، ألقى بظلاله على اختيارات حاملي البكالوريا وأوليائهم. فاليوم بات التركيز موجها نحو مجالات التكنولوجيا، الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني والأنظمة المستقلة، باعتبارها خيارات مضمونة التوظيف، نظرا إلى حاجة السوق الاقتصادية المتزايدة إليها، لاسيما مع رسم ثورة الذكاء الاصطناعي معالم مهن المستقبل ووضعها خارطة جديدة لعالم الشغل.
ومع انطلاق التسجيلات الجامعية، اقتربنا من بعض النماذج لطلبة ناجحين بمعدلات تراوحت بين 12 و18 على 20، لتقصي توجهاتهم عند اختيار التخصصات من القائمة التي وضعتها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وكان القاسم المشترك في إجاباتهم: "أريد تخصصا مضمون التوظيف."
تجارب الزملاء السابقين كانت مصدر إلهام لهم، حيث تأكدوا من أن عالم التكنولوجيا أصبح رقم واحد في ضمان وظائف مريحة ومربحة تختصر طريق بناء المستقبل. وتنوعت التخصصات المرغوبة بين الإعلام الآلي، الحوسبة، الإلكترونيات، الروبوتيك، الذكاء الاصطناعي والبرمجيات، وهي مجالات جذابة ساهمت، حتى قبل دخول الجامعة، في خلق ديناميكية جديدة لدى التلاميذ، بفضل تفاعلهم اليومي معها عبر الهواتف الذكية.
الجامعة اليوم صارت تمثل، بالنسبة إلى هؤلاء، محطة لتأطير هذا التوجه الطبيعي والحصول على شهادة تؤهلهم لاقتحام سوق الشغل بثقة. وباستثناء تخصصي الطب والمدارس العليا للأساتذة، اللذين لا يزالان محافظين على استقطابهما نظرا لخصوصيتهما العلمية وعقود التوظيف المضمونة، فإن باقي التوجهات تصبّ كلها في خانة الرقمنة والابتكار.
وقد صرح الأمين العام للمنظمة الوطنية للطلبة الأحرار، رياض بوخبلة، لـ"الخبر"، بأن إعلان نتائج البكالوريا لدورة جوان 2025 أظهر تحولا لافتا في توجهات الطلبة نحو تخصصات حديثة ومغايرة لما كان سائدا. وأوضح أن هذا التغير لا يعد ظرفيا أو عشوائيا، بل يعكس وعيا متصاعدا لدى جيل اليوم وتفاعلا ذكيًا مع متطلبات سوق الشغل.
وأكد بوخبلة أن السنوات الأخيرة شهدت إقبالا متزايدا على تخصصات التكنولوجيا، الطاقات المتجددة، الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، اللوجستيك والاقتصاد الرقمي. وأضاف أن هذه التخصصات، التي كانت إلى وقت قريب تعتبر "ثانوية"، أصبحت اليوم الخيار الأول لآلاف الطلبة، نظرا لآفاقها المهنية الواعدة.
في المقابل، سجل تراجع ملحوظ في الإقبال على بعض التخصصات الكلاسيكية التي لم تعد تواكب تحولات المجتمع ومتطلبات التنمية. ومع ذلك، لا تزال تخصصات مثل الطب والهندسة تحافظ على مكانتها، بفضل ارتباطها بالابتكار والطلب المجتمعي المستمر.
وأضاف بوخبلة أن هذا التحول دليل على نضج وعي الشباب وانعكاس لذكاء جماعي في اختيار مسارات أكاديمية مبنية على أسس علمية ومهنية، وشدد على أن الاستثمار في المستقبل يبدأ من مقاعد الجامعة وأن "جزائر الغد" تبنى بعقول أبنائها وقراراتهم الواعية.
تحول اختيارات البكالوريا نحو تخصصات المستقبل
وفي سياق استطلاع آراء مكونات الأسرة الجامعية، كشف رئيس التنسيقية الوطنية لأساتذة التعليم العالي، البروفيسور عز الدين رامي، أن التنسيقية أجرت تحليلا بعنوان: "نظرة تحليلية في سلوك التوجيه الجامعي الجديد لدى التلاميذ وأوليائهم في ضوء متغيرات سوق العمل".
"المتحصل على شهادة البكالوريا قد تغيرت اختياراته، حيث لم تعد تتم بمنطق عاطفي أو تقليدي، بل أصبحت تبنى على سؤال جوهري: ما الذي سيمنحني فرصة شغل حقيقية بعد التخرج؟"، يضيف رامي.
وأوضح المتحدث أن التوجيه يميل نحو تخصصات ذات امتداد حقيقي في سوق العمل، محليا ودوليا، على رأسها الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني والأنظمة المستقلة. كما لا تزال تخصصات مثل الطب والرياضيات والمدارس العليا للأساتذة تعد منافسا قويا، بفضل ما توفره من فرص واضحة واستقرار مهني.
وأضاف أن هذا التحول في العقلية يعكس وعي الجيل الجديد بمتطلبات الواقع، داعيا إلى ضرورة مواكبة الجامعة لهذا التغير، عبر تحديث عروض التكوين وربطها بالحاجات الفعلية للاقتصاد الوطني.
وشدد البروفيسور عز الدين رامي على أهمية إشراك الفاعلين الجامعيين في صياغة سياسات التوجيه والتكوين، لأن أي إصلاح لا يبنى على رأي المختصين سيكون بعيدا عن الواقع، حسب تعبيره.
الوزارة ترافق التحول بتعزيز التكوين التكنولوجي
من جهته، صرح مستشار وزير التعليم العالي، عبد الجبار داودي، لـ"الخبر"، بأن الوزارة واكبت هذا التحول العالمي نحو التكنولوجيا، تماشيا مع برنامج الحكومة وتوجيهات رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون.
وأكد داودي أنه تم توجيه 65 في المائة من الناجحين في بكالوريا 2024 نحو التخصصات العلمية والتقنية والتكنولوجية، وهي النسبة نفسها التي سيتم اعتمادها مع طلبة 2025. وأوضح أن هذا التحول في رغبات الطلبة بدأ منذ عامين، حيث زاد الإقبال على الإعلام الآلي، الأنظمة المستقلة، الأمن السيبراني وكل ما يتعلق بالتكنولوجيا والاتصال.
وفي هذا الإطار، تم إدماج حاملي بكالوريا آداب وفلسفة ضمن هذا التوجه، عبر عروض تكوين جديدة تعتمد على اقتصاد المعرفة. وقد تم استحداث 14 عرضا في 23 مؤسسة جامعية عبر الوطن، لتزويد هؤلاء الطلبة بمهارات تتماشى مع متطلبات المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية.
وشملت هذه التخصصات مجالات علوم التسيير، كإدارة المطارات والعبور، التسويق، التجارة الإلكترونية، إضافة إلى صناعة المحتوى والتصميم الرقمي، ما يمثل آفاقا واعدة لطلبة الشعب الأدبية.
وأضاف داودي أن مهن المستقبل تفرض إدماج الذكاء الاصطناعي في كل المجالات، بما في ذلك العلوم الطبية التي أصبحت بدورها تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، كما أشار إلى إدراج الشهادات المزدوجة في عدة تخصصات، ما يفتح آفاقا أوسع للتكوين والتوظيف.
واختتم المتحدث تصريحه بالتأكيد على أن الجامعة الجزائرية تتحول تدريجيا إلى مؤسسة مواكبة لعالم متغير وتسعى إلى إعداد خريجين قادرين على خوض غمار التنافسية العالمية بثقة وكفاءة.
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال