فتحت وزارة الدفاع الوطني، في عدد شهر فيفري من مجلة "الجيش"، أوراق قضية التفجيرات النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية، واعتبرتها جريمة مكتملة الأركان لا تسقط بالتقادم، كشفت عن الوجه "البغيض" للاستعمار، فقد شكلت أحداثا مأساوية لا تزال آثارها إلى اليوم، تفرض على فرنسا اليوم تحمّل مسؤوليتها التاريخية التي تنطلق من تمويل عمليات تطهير المواقع الملوّثة بالنفايات النووية في مناطق التفجيرات بالجنوب الجزائري.
هذا المطلب عبّر عنه وزير الدولة، وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج، أحمد عطاف، في مناسبة سابقة في خضم تجديد رفع مطالب الجزائر، بضرورة اعتراف فرنسا بارتكاب جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية خلال فترة الاستعمار. مشيرا إلى أنّ ملف الذاكرة لم يغلق، حيث سيطرح على مدى مؤسسات الاتحاد الإفريقي، ليدرس البرلمان الأفريقي في دورته في شهر فيفري الجاري ملف سجل الاستعمار في القارة الإفريقية.
وأشارت "الجيش" لسان حال وزارة الدفاع الوطني، إلى أنّ اختيار فرنسا الاستعمارية لمنطقة "رقان" للقيام بالتفجيرات النووية، كان مخططا نظرا لبعد المنطقة وصعوبة وصول وسائل الإعلام إليها حتى تنفذ بعيدا عن أنظار العالم. ونكرت الدعاية المضللة التي روّجت لها فرنسا الاستعمارية للعالم ومفادها خلو هذه المنطقة من الحياة، وهي أكذوبة تدحضها كل المصادر التاريخية وشهادات سكان المنطقة التي تؤكد أن "رقان" وإقليم توات عامة، كان مأهولا بالسكان ومزدهرا فلاحيا ومنطقة عبور استراتيجية من وإلى دول إفريقيا جنوب الصحراء.
وأوضحت المجلة أنّ الفرقة الثانية لجيش الاحتلال الفرنسي المباشرة للأشغال، استقرت بالمنطقة وخاصة بموقع حمودية الذي يبعد عن رقان بأزيد من 40 كلم، حيث تم في مدة ثلاث سنوات تحضير قاعدة لإجراء التفجيرات متكونة من مواقع للتفجيرات ومنطقة للحياة ضمت، حسب عديد المصادر 6500 فرنسيا و3500 جزائريا كعمال بسطاء ومعتقلين.
واستندت المجلة إلى شهادات عيان تحدثوا عن طبيعة عمل الجزائريين في هذا المشروع، حيث يقول أحد عمال موقع حمودية، وهو السيد أعبلة عبد الله المدعو "لوليد"، أنّ السكان المحليين في تلك الفترة كانوا يجهلون خبايا الموقع ولا يعلمون ما يجري به، خاصة أنّ السلطات الاستعمارية عملت على إحاطة المشروع بسرية تامة وأسندت مهمة أشغاله لشركات تحت صبغة مدنية تختص بالأشغال العمومية والبنى التحتية".
وأكد أن فرنسا الاستعمارية حرصت على طمس الحقيقة ونشر الغموض بشأن المشروع، باعتماد العمل بنظام التفويج لمدة 15 يوما غير قابلة للتجديد خاصة بالنسبة للعمال القادمين من خارج رقان كأدرار، تميمون، برج باجي مختار، وحتى من المستعمرات الفرنسية في إفريقيا، وذلك بهدف منع التعارف وتبادل المعلومات بين العمال، وهو ما من شأنه تسريب معلومات قد تفشل المشروع برمّته.
وصمة عار
قالت مجلة "الجيش"، إنّ تاريخ 13 فيفري 1960، سيبقى وصمة عار في جبين فرنسا الاستعمارية، وهو اليوم الذي فجّرت فيه أولى قنابلها النووية برقان بمسمى "اليربوع الأزرق"، والتي بلغت قوتها 70 كيلوطن، متجاوزة قنبلة هيروشيما بحوالي 4 أضعاف، فقد أظهر تقرير للمفوضية الفرنسية للطاقة الذرية سنة 1960 رفعت عنه السرية في أفريل 2013 مدى شساعة المناطق المتضررة التي امتدت إلى غاية إفريقيا جنوب الصحراء ووسط إفريقيا وحتى غربها، وبلوغ السحابة الإشعاعية السواحل المتوسطية الإسبانية وصقلية بإيطاليا.
واصلت فرنسا جريمتها بعد "اليربوع الأزرق"، بتنفيذ ثلاث تفجيرات أخرى وهي "اليربوع الأبيض" في الفاتح أفريل 1960، "اليربوع الأحمر" في 27 ديسمبر 1960 و"اليربوع الأخضر" في 25 أفريل 1961، وكانت آثارها مدمّرة على حياة البشر والحيوانات والنبات والبيئة ككل.
فرنسا التي تحاول اليوم ارتداء ثوب المدافع على حقوق الإنسان واحترام حرية التعبير، غيّرت خطتها بعد فشل مساعيها في إخفاء جريمتها ضد الإنسانية، فانتقلت ـ تضيف مجلة الجيش ـ من التفجيرات السطحية إلى الباطنية وبالتحديد بمنطقة "إن أكر" على بعد حوالي 180 كلم شمال غرب مدينة تمنراست، حيث نفذت 13 تفجيرا باطنيا في أنفاق على شكل نهاية حلزونية تم حفرها في المنطقة وتحديدا بجبل تاوريرت تان أفلا الذي هو عبارة عن جبل صخري من مادة الغرانيت بمحيط حوالي 40 كلم، ومن بين هذه التفجيرات التفجير المسمى "بيريل" الذي نفذ يوم الفاتح ماي 1962، وكان فاشلا، حيث نتج عنه وفقا لمصادر تاريخية، تسرّب سحابة إشعاعية تسببت في تلوث جوي على مسافة 150 كلم، ما أدى إلى مأساة إنسانية وبينية في المناطق الملوثة.
آثار مستمرة على البيئة والإنسان
إصرار الجزائر على إلزام فرنسا بتطهير المخلّفات النووية، كجزء من إصلاح ما اقترفته إبان الفترة الاستعمارية يتجاوز ملف الماضي والتاريخ، بحكم أنّ آثار هذه "الجريمة" لم يتوقف يوما. فإلى جانب آلاف الضحايا الذين لقوا حتفهم جراء هذه التفجيرات، وكذا تأثيرها على البيئة عموما، لا تزال آثارها مستمرة حتى الآن، حيث تمتد الإشعاعات النووية لمئات بل لآلاف السنين، وهو ما نلاحظه اليوم من خلال الأمراض التي لا تزال متفشية في المنطقة.
وقالت مجلة "الجيش" في هذا الصدد، إنّ علاقة الإشعاعات النووية بالأمراض المنتشرة في المناطق التي نفّذت بها التفجيرات، لا يختلف حولها اثنان، فحجم الأمراض وطبيعتها بادية على أجساد عدد كبير من ساكنة "رقان" و"إن أكر"، حيث تسببت هذه الإشعاعات حسب العديد من الأطباء المختصين في العديد من الأمراض الخطيرة، ذلك لأن خطر الإشعاع لا يكمن في تأثيره على جسم الإنسان وقت إجراء التفجيرات فحسب، بل يمتد هذا التأثير إلى الأجيال اللاحقة بفعل التأثيرات الوراثية التي تنجم عنه، ما تسبّب في انتقال العديد من الأمراض وراثيا، ومنها سرطانات الجلد، الدم، الغدة الدرقية، وكذا ارتفاع حالات الإجهاض والولادات المبكرة وارتفاع مستويات العقم وارتفاع حالات الصم البكم جيلا بعد جيل، وهي أمراض تسجل أكثر من المستويات الطبيعية بتلك المناطق.
الاعتراف والتطهير .. مسؤولية تاريخية
واعتبرت مجلة "الجيش" في مقالها، أنّ تضليل المجتمع الدولي والرأي العام العالمي، بأن ما حدث في الصحراء الجزائرية، هي "تجارب نووية" بحتة لها آثار جانبية يعد أكبر كذبة وخدعة مارستها فرنسا الاستعمارية، فهي تفجيرات نووية وجريمة في حق الإنسانية، على فرنسا أن تتحمل مسؤوليتها التاريخية والجزائية والأخلاقية تجاهها وتجاه ضحاياها من إنسان وحيوان وجماد ووطن لا يزال ينزف جراء هذه الجريمة، من خلال الاعتراف بجرائمها ومخلّفاتها وتطهير المناطق المتضررة، إلى جانب تسليم الأرشيف المتعلق بالتفجيرات ومواقع دفن النفايات النووية وهي حقيقة تاريخية.
واستندت المجلة على ما أكد عليه رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون في أكثر من مناسبة، بشأن احترام ملف الذاكرة، مع المطالبة بالاعتراف بالمجازر التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي الذي كان استيطانيا بحتا، وفي هذا الخصوص، حيث قال رئيس الجمهورية في خطاب موجّه للأمة يوم 29 ديسمبر 2024 أمام البرلمان بغرفتيه بقصر الأمم بنادي الصنوبر: "إننا نصون الذاكرة لأنّ الأمر يتعلق بأجدادنا وبأصلنا، لن نمر مرور الكرام من أجل أن تشكرني وتقول عني أني ديمقراطي، أنا لست ديمقراطيا، بل أحاسبك على التاريخ، فأنت أصبحت قوة نووية وتركت لي المرض، حيث ما زال سكاننا في رقان وغيرها يعانون من آثار التفجيرات النووية، وأنت دخلت في نادي القوى النووية، فتعالى طهّر المناطق الملوّثة، لا تعطني الأموال، أنا لست بحاجة لأموالك، هناك أجيال وأجيال تم القضاء عليها، نحن لن نتخلى عن الذاكرة، فأجدادنا لم يستشهدوا هباء، ويجب صون كرامتهم وكرامة المواطنين بصفة عامة".
وأشارت المجلة، في المقابل، إلى استعمال فرنسا قاعدة الكيل بمكيالين تنصّلا من مسؤوليتها التاريخية والأخلاقية في هذا الملف تحديدا، حيث ذكّر المقال بقانون "موران" الفرنسي الصادر في الخامس من جانفي 2010، وهو قانون يتعلق بالاعتراف وتعويض ضحايا التجارب النووية الفرنسية، إلا أنه وبعد 14 سنة من صدور هذا القانون، غيّبت فرنسا الضحايا الجزائريين وأقصتهم من الاستفادة منه، حيث اقتصر تطبيقه على ضحايا تفجيراتها في "بولينيزيا"، من خلال بعض البنود التقنية التعجيزية وغير الواقعية البعيدة عن الحقيقة، في تملّص صريح من مسؤوليتها التاريخية والقانونية والأخلاقية، لكن ورغم كل هذا تبقى رسالة الشهداء الخالدة في قلوب جيل الجزائر الجديدة الحامل لقيم ثورة نوفمبر الأغرّ والوفيّ لعهد الرعيل الأول من الشهداء والمجاهدين، جيل لن ينسى جرائم الاستعمار التي لن تسقط بالتقادم.
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال