الوطن

مجازر 8 ماي في الوثائق والأدبيات الوطنية المعاصرة

نحاول في هذه الورقة مناقشة جانب آخر لمجازر الثامن ماي 1945 والذي يتمثل في تأثير هذه الأحداث على مسار النضال بعد 1945.

  • 110
  • 7:43 دقيقة
الصورة: ح.م
الصورة: ح.م

نحاول في هذه الورقة مناقشة جانب آخر لمجازر الثامن ماي 1945 والذي يتمثل في تأثير هذه الأحداث على مسار النضال بعد 1945، من خلال تحليل واستقراء الوثائق التي نددت بالمجازر، سواء التي عاصرتها أو التي كتبت بعدها، أو كتبت عنها، وهذا انطلاقا مما أدلى به البروفيسور عبد الله مقلاتي الذي قدّم عدة تفاصيل عن هذه الوثائق التي نددت على نطاق واسع بالجريمة الفرنسية في حق الأبرياء من العزل، ونقلت تفاصيل أحداثها للرأي العام المحلي والدولي. كما تحدّث الأستاذ بوعيشاوي رياض عن موضوع نشره العقيد محمد شعباني قائد الولاية السادسة التاريخية، سنة 1961، بمناسبة الذكرى 131 لسقوط مدينة الجزائر، تناول المكتسبات الاستراتيجية لمجازر الثامن ماي 1945.

فضّل البروفيسور عبد الله مقلاتي، مدير مخبر الدراسات والبحث في الثورة الجزائرية، جامعة المسيلة، الحديث عن الوثائق التي عاصرت جريمة ماي 1945، وهي عديدة، على حد تعبيره، والتي نددت على نطاق واسع بالجريمة واجتهدت في استخلاص الدروس منها، وثيقة حزب الشعب المرفوعة للجامعة العربية من قبل الشاذلي المكي، تقرير حسين آيت احمد للجنة المركزية، كتيب حركة الانتصار المعنون "الإبادة الجماعية في شهر ماي 1945، مذكرة حركة الانتصار للأمم المتحدة عام 1950، أدبيات جمعية العلماء المنددة بالجريمة، أدبيات الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري ووثائق لجنة الدفاع عن إفريقيا الشمالية.

الشاذلي المكي ووثيقة حزب الشعب

بالنسبة لوثيقة حزب الشعب المرفوعة للجامعة العربية، قال مقلاتي بأن الشاذلي المكي كان شاهدا على المجازر وجمع وثائقها، ومما قاله عنها فيما بعد، "إن انتفاضة 8 ماي 1945 هي مصيبة كبيرة للجزائريين، فقد فقدنا الآلاف من شعبنا لكن بيّنت لنا أن الاستعمار لا يفهم إلا لغة السلاح والقوة، ولكن قبل الوصول إلى مرحلة السلاح لا بد من تسليح الشعب فكريا نكون له روح الكفاح والتضحية، فقد استعملت تسع سنوات لتكوين الروح الوطنية والقوة والإيمان في الجزائر ومستقبلها واستقلالها، فالحركة الوطنية رغم أخطائها، إلا أنها كوّنت رجالا وهؤلاء هم الذين في يوم أول نوفمبر 1954 كانوا في المعمعة لأنهم روحيا كانوا مسلحين، لأن حزب الشعب وانتصار الحريات كانت في الميدان الشرعي وهي امتداد لحزب الشعب والمنظمة السرية التي كانت تحضّر للكفاح المسلح". وأضاف قائلا: "فالإنسان لما يرجع إلى الوراء يرى أن الانتفاضة في الحقيقة لم تكن كارثة على الشعب الجزائري ومن الناحية الروحية أكسبت الشعب روح الانتقام من الاستعمار وأن يردوا عليه باللغة التي يفهمها وهي لغة السلاح، فانتفاضة ماي وضّحت لنا الطريق وأن هناك يوم للفاهم"، وقال الشاذلي عن ظروف المجازر يؤكد مقلاتي: "وصادف هذا اليوم سقوط عاصمة ألمانيا في أيدي الحلفاء، الأمر الذي أعطى المظاهرات طابعا خاصا، حمل المتظاهرون فيه لافتات تندد بالاستعمار والمستعمرين، وتنادي بحرية الجزائر واستقلالها وبسقوط قرار السابع مارس 1944، وبإطلاق سراح المساجين السياسيين وبحياة جامعة الدول العربية".

وحسب مقلاتي كان الشاذلي شاهدا على مجازر الثامن ماي وكلّفه حزب الشعب بالتنقل بين مدن الشرق لجمع المعلومات الكافية بإدانة المستعمر ونشرها في الخارج، تونس والقاهرة، "وفعلا تمكن من ذلك كما يروي عبد الرحمان العقون وطلب منه الحزب تمثيله في القاهرة، حيث رفع مذكرة للجامعة العربية عن مجازر الثامن ماي وراسل الممثلين الدوليين في القاهرة والصحف".

وذكر البروفيسور أن المذكرة قدمت للدورة الرابعة لمجلس الجامعة العربية وللسيد الأمين العام عبد الرحمان عزام، وحملت عنوان "عن حوادث سطيف الدامية بالجزائر مايو 1945" وكتبت بالقاهرة بتاريخ 20 أكتوبر 1946 في نحو 14 صفحة تتضمن معلومات وافية عن المجزرة وتحليلا للمواقف واستخلاصا للدروس، وهي تقدّم رقم 45 ألف قتيل والذي أصبح الرقم الرسمي المعتمد، وتبدأ بفضح سياسة فرنسا في الجزائر.. كما أن هذه المذكّرة المقدّمة، يقول مقلاتي، كانت مفيدة في تدويل جريمة ماي 1945 وإبراز حجم المأساة التي تعرّض لها الجزائريون طيلة شهر من التقتيل والتنكيل الذي يشبه ما وقع لفلسطين ودعوة الجامعة العربية لتبني القضية الجزائرية.

"ساهمت هذه المذكّرة في التعريف بالجريمة واستغلالها في المطالبة بالحقوق الوطنية، حيث عقدت الجامعة جلسة خاصة لدراسة قضايا المغرب العربي، ورفعت للأمم المتحدة مذكرة تذكّرها فيها بالجرائم الفرنسية في الجزائر، مقدّمة الإحصائيات الآتية: 45 ألف قتيل وجرح أكثر من 200 ألف شخص واعتقال عشرات الآلاف".

مذكرة حركة الانتصار للأمم المتحدة

كما عاد البروفيسور إلى مذكرة حركة انتصار الحريات الديمقراطية للأمم المتحدة عام 1950 والتي كتبت في 20 سبتمبر 1950، وأمضاها حسين لحول، بصفته الأمين العام لحركة الانتصار، وهي مذكرة للتنديد بسياسة فرنسا، "وأشارت إلى سياسة فرنسا الاستعمارية في الجزائر، ومخططات الاستيطان ومحو الهوية الوطنية القديمة والجديدة، وعلى الرغم من التضحيات الكبرى للجزائريين، إلى جانب فرنسا في الحربين العالميتين، فقد واصلت فرنسا اضطهاد الحركة الوطنية ومذبحة الثامن ماي، دليل على ذلك، "وفي 8 ماي 1945، بينما كان العالم بأسره يحتفل بيوم الهدنة والانتصار على الهتلرية، أراد الشعب الجزائري أن يعبّر عن أمله، في أن يرى تضحياته تحظى بالاعتبار، وأن يتمكّن من تحقيق مطامحه القومية، ولكن الجيوش الفرنسية المكلفة بحفظ الأمن والاستقرار انضمت مع الأسف للفرق الفرنسية المسلحة، وأحدثت مجزرة كان ضحيتها 45 ألف نسمة، فكانت أبطال الفرقة السابعة من الرماة الجزائريين الذين عادوا مكلّلين بالنصر من ميادين القتال بإفريقيا وأوروبا يجدون ديارهم مهدّمة وحقولهم مدمّرة ونساؤهم مهتوكة الأعراض، وأهليهم مقتولين بالرصاص، وقد أجبرت الدولة الفرنسية أمام موجة الاستيلاء الهائلة التي غمرت العالم إثر هذه الحوادث، على أن تتخذ موقفا تمحو به الأثر السيء الذي ترتكبه سياستها الاضطهادية، فكان هذا الدستور مختلا، وكان وليده قانون الأسس التنظيمية مختلا مثله، وكان غاية ما امتاز به أنه تسبّب في إجماع الرأي العام الجزائري ضده...الخ".

الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري

وقدّم مقلاتي شرحا وافيا عن أدبيات الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، وقال إن فرحات عباس كان فاعلا في هذه الأحداث، فقد عقد تحالفا مع حزب الشعب في إطار أحباب البيان والحرية، لكن الأحداث في ماي 1945 فجرت التحالف، حيث حمّل حزب الشعب المسؤولية عن الأحداث، ووقع الاختلاف في النهج المتبّع بعدها، ورأى عباس التمسك بالخيار السلمي بدل الثوري لتحقيق الاستقلال الذاتي، "ولا تخلو بيانات الحزب ونصوصه من العودة دائما للوقوف أمام مأساة الثامن ماي، باعتبارها جريمة استعمارية ارتكبت في حق الشعب الجزائري الأعزل والطامح لتحقيق مطالبه الوطنية القومية. في كتاباته حاول عباس التهجم على الإدارة الفرنسية والمستوطنين، متهما إياهم بحياكة مؤامرة وحاول الإتيان ببراهين لإثبات ذلك. في 9 ماي 1947 عاد فرحات عباس في مقال له ليؤكد أن النظم الاستعماري كان السبب في إشعال المؤامرة التي يجب أن تدمي منطقة قسنطينة، وقد كان تغيير اسم جريدة الحزب من المساواة إلى الجمهورية الجزائرية منذ عام 1946، دليل على تغيّر في مواقف عباس من الإدماج إلى الاستقلال الذاتي، وهو ما كرّسه البيان التأسيسي لحزبه الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري".

لجنة الدفاع عن إفريقيا الشمالية

وختم حديثة بوثائق لجنة الدفاع عن إفريقيا الشمالية، وصرح أنه في مصر واكبت جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية، مجزرة ماي 1945 بتوجيه من رئيسها محمد الخضر حسين وكاتبها العام الفضيل الورتيلاني. ففي أول بيان لها، يقول البروفيسور، تحدثت عن ثورة عربية في الجزائر باتت تتحدث عنها الصحف الدولية، ونددت بالجرائم المرتكبة، ودعت إلى حماية الشعب الجزائري وإرسال وفود أممية لمعاينة الحالة التي تسبب فيها الفاشستيون الفرنسيون. كما وجهت الجبهة بيانا ثانيا إلى دول الجامعة العربية ودول الأمم المتحدة، عنوانه "ثورة الجزائر دفاعا عن حقوقهم ودينهم وأعراضهم وأموالهم مذكرة خطيرة"، "وقد لفتت الانتباه إلى ما يحدث في الجزائر، واصفة إياها بالمجازر في حق الإنسانية، وطالبت من الجامعة العربية تقديم المساعدة، ومن الدول الديمقراطية إنقاذ حياة الناس الأبرياء، وتلتها بمذكرة أخرى إلى الدول العربية وإلى الأمم المتحدة، تحدثت عن اضطهاد شعوب شمال إفريقيا وعن سياسة الاضطهاد والحيف الفرنسية، داعية إلى مساعدة الشعب الجزائري.

مجازر 8 ماي.. مدرسة "العبر والحنكة والتجارب"

تحدّث الدكتور بوعيشاوي رياض، عن المكتسبات الاستراتيجية لمجازر الثامن ماي 1945، بالعودة إلى موضوع نشره العقيد محمد شعباني قائد الولاية السادسة التاريخية، سنة 1961، بمناسبة الذكرى 131 لسقوط مدينة الجزائر والموسوم بــ: "نداء بمناسبة 05 جويلية"، دراسة تحليلية ونقدية لتطور الثورات الشعبية التي قامت على أرض الجزائر منذ بداية الاحتلال إلى غاية اندلاع ثورة أول نوفمبر 1954، بما فيها مجازر 08 ماي 1945 التي اصطلح عليها العقيد محمد شعباني "بثورة 08 ماي 1945". ومما جاء فيه يقول بوعيشاوي: "وهكذا إخواني، استمرت المعارك بيننا وبين فرنسا منذ احتلالها لبلادنا حتى اليوم، فبالأمس القريب قامت ثورة 8 ماي 1945 التي قدّم فيها شعبنا الأبي عدد (45) ألف ضحية تحت مسؤولية العجوز الشمطاء ديغول نفسه... ورغم أن هاته الثورات التي أخمدت ولم يصل بها الشعب إلى الهدف المنشود خلّفت فيه بطولة نادرة واستفاد منها العبر والحنكة والتجارب، هاته الأركان الأساسية التي استعملها في ثورته العارمة ومعركته الأخيرة ثورة 1954- ومعركة 1954 التي ستمحق الاستعمار محقا كليا من بلادنا".

يندرج تعرض العقيد محمد شعباني (لثورة) 08 ماي 1945، حسب بوعيشاوي ضمن سلسلة تحليل ونقد تطور الكفاح الوطني منذ بداية الاحتلال 1830 إلى غاية 05 جويلية 1961، والتي نظَّرت لجملة من الدعائم الاستراتيجية نحو تحقيق ثورة التحرير الوطني لأهدافها كاملة.

وقد لخّص العقيد محمد شعباني، يضيف المتحدث، المكتسبات الاستراتيجية (لثورة) 08 ماي 1945 إلى ثلاثة 03 أركان أساسية، حسب تعبيره، وهي:

العبر: استخلص الشعب الجزائري من كل الثورات التي ما فتئت تنشب هنا وهناك في بقاع البلاد جملة من الدروس والعبر، أهمها استحالة تحقيق نصر حقيقي ضد قوات الاحتلال الفرنسي يفضي إلى استرجاع السيادة الوطنية، دون وجود وحدة وطنية ضمن تنظيم موحّد وفق تنسيق تكتيكي بين المجاهدين في أرض مترامية الأطراف.

الحنكة: أبرزت هذه المجازر للشعب الجزائري كافة وللمناضلين خاصة، حتمية النضال المسلح بدل الانتظار العقيم، وكشفت، حسبه، بوضوح زيف الوعود الفرنسية التي تتجسّد في وعود الجنرال شارل ديغول (العجوز الشمطاء) كما عبّر شعباني. وأخيرا التجارب وهنا يقول: رغم أن الثورات المتتالية والمتلاحقة منذ بداية الاحتلال إلى غاية (ثورة) 08 ماي 1945 قد أظهرت فشلا مرحليًّا في استرجاع السيادة الوطنية "الهدف المنشود"، كما عبر العقيد شعباني، إلا أنها زوّدت الجزائريين بتجارب ثورية ثمينة كالوعي بحتمية الكفاح المسلح.

وختم محدثنا بالقول إن العقيد شعباني صدق في تحليله، فالمجازر كانت مدرسة "العبر والحنكة والتجارب" وحجر الزاوية في تحقيق النصر النهائي على الاستعمار الفرنسي، "فقد مهّدت مجازر 08 ماي 1954 الشعب نفسيا وعسكريًا لتفجير ثورة أول نوفمبر 1954، حيث استثمر قادة الثورة تلك الدروس الاستراتيجية، يضيف العقيد شعباني، أنه من حق هذا الشعب أن تنحني له الشعوب إجلالا وتعظيما وبكل خشوع لروح البطولة الفذة المرموقة".