الوطن

من الاستعمار إلى الابتزاز

العلاقات بين البلدين في منعطف خطير، يكشف هشاشة الخطاب الفرنسي ومحدودية مناوراته السياسوية.

  • 4957
  • 2:52 دقيقة
الصورة : ح.م
الصورة : ح.م

العلاقات بين الجزائر وفرنسا تتعقد أكثر فأكثر، والسبب هذه المرة تسريب إعلامي مفضوح نقلته مجلة "لكسبريس"، يفيد بأن باريس تخطط لاتخاذ قرار وشيك يقضي بتجميد أرصدة وممتلكات تعود إلى مسؤولين جزائريين. هذه الخطوة الاستفزازية تأتي، حسب المزاعم، ردا على رفض الجزائر استقبال بعض من رعاياها الصادرة بحقهم قرارات ترحيل من الأراضي الفرنسية.

العلاقات بين البلدين في منعطف خطير، يكشف هشاشة الخطاب الفرنسي ومحدودية مناوراته السياسوية. هذه المرة، لا يتعلق الأمر بتصريح أرعن من مسؤول فرنسي، ولا بزلة لسان من إعلام مشحون بنوستالجيا استعمارية، بل بتسريب ممنهج تبنته مجلة فرنسية معروفة، يفيد بأن باريس تستعد لتجميد أموال وممتلكات تعود لمسؤولين جزائريين بذريعة رفض الجزائر استقبال بعض رعاياها الخاضعين لإجراءات الترحيل.

إنها لحظة صدام مكشوف، لم تعد فيها فرنسا قادرة على ارتداء قناع الشريك، واختارت بدلا من ذلك سلاح الابتزاز، معتقدة أن بإمكانها ليّ ذراع دولة ذات سيادة، بقرارات استعراضية لا أخلاقية، تدار من خلف الستار.

الرد الجزائري لم يتأخر. جاء حازما، واثقا، غير قابل للتأويل: "نفّذوا تهديداتكم إن كنتم صادقين". فالجزائر لا تخشى هذا النوع من الضغوط، بل تعتبره دليلا على إفلاس سياسي وأخلاقي لدى الطرف الفرنسي.

ومن المثير للسخرية أن دولة تغرق خطابها في مفردات العدالة والقانون تعجز حتى عن الرد على 51 إنابة قضائية جزائرية أُرسلت إليها في إطار ملف "الأموال المنهوبة"، فضلا عن تجاهلها الفاضح لطلبات تسليم مجرمين فاسدين فروا إلى التراب الفرنسي تحت مظلة "اللجوء السياسي".

أي مصداقية تبقت لجمهورية ترفض التعاون القضائي حين يطلب منها، لكنها تهدد بالتصعيد حين يتعلق الأمر بمصالحها الضيقة أو حساباتها الانتخابية؟

لم تعد الجزائر تقبل الصمت ولن تبقى مكتوفة الأيدي، فقد آن الأوان لكشف المستور. إن ما يحدث اليوم ليس إلا تتويجا لسلسلة طويلة من التواطؤ الفرنسي في ملفات حساسة، أهمها إيواء الأموال الجزائرية المنهوبة والمتناثرة في شوارع باريس الراقية وشواطئ "كوت دازور". هذه الأموال، التي تعود للشعب الجزائري، لم تحم بحكم القانون، بل بتواطؤ سياسي واضح، يخدم أجندات مغلقة ومعارك نفوذ خفية.

وعلى الضفة الأخرى، توفر باريس الحماية الكاملة لـ"الطابور الخامس"، من أشباه معارضين وملاحقين متورطين في قضايا فساد كبرى، يحظون بتساهل قضائي مفضوح ورعاية سياسية تقوض أي أمل في شراكة حقيقية بين البلدين.

إن الجزائر لا تطلب معاملة تفضيلية ولا تتوسل تعاونا، هي تطالب فقط بـ"الندية" والمعاملة بالمثل وبالحد الأدنى من احترام السيادة. وإذا كانت فرنسا حريصة على الشفافية ومحاربة الفساد، فلتبدأ أولا بتنظيف ملفاتها والإفراج عن الردود القضائية المطلوبة ومساءلة شبكاتها التي تحولت إلى غطاء لغسيل الأموال وتهريبها عبر العقارات والبنوك والمصالح المشبوهة.

على باريس أن تفهم جيدا أن الجزائر لم تعد تلك الدولة التي تخاطَب بلغة التهديد والتلميح وأن زمن الوصاية قد ولى إلى غير رجعة.

وما لا تعرفه باريس، أو تتجاهله عمدا، هو أن الجزائر بدورها تملك ملفات شديدة الحساسية، تتعلق بمسؤولين فرنسيين، حاليين وسابقين، يملكون عقارات فارهة في لوكسمبورغ وزيورخ وموناكو ودبي وملاذات مالية أخرى. عقارات تم تسجيلها عبر شركات وهمية وتحويلات مالية غير قانونية، توثق زيف الشعارات التي ترفعها الجمهورية الفرنسية باسم النزاهة والأخلاق العامة.

إن هذه الملفات قابلة للنشر في أي لحظة إذا واصلت فرنسا سياساتها الكيل بمكيالين، وحينها لن يكون الحديث عن "نظام جزائري" أو "نخب متغولة"، بل عن فضائح فرنسية موثقة، تصفع وجه دولة أدمنت لعب دور "الواعظ"، وهي تتخبط في مستنقع النفاق.

أخيرا، إن الجزائر ليست في موقع الدفاع بل في موقع الصراحة والوضوح، وهي مستعدة للذهاب بعيدا في هذا المسار، دفاعا عن سيادتها ورفضا لأي تدخل أو وصاية، أما أولئك الذين يعتقدون أن الذاكرة الاستعمارية لاتزال تحكم العلاقات بين البلدين فعليهم أن يفيقوا من أوهامهم. فاليوم، الجزائر لا تساوم.. بل تواجه.