الوطن

بنجامين ستورا.. مؤرخ ذاكرة أم هدف سياسي؟

من خلال مواقع إلكترونية تعمل كأذرع إعلامية موازية للمخزن، تم الترويج لسلسلة من الأكاذيب والإهانات ضد المؤرخ المعروف الذي ظل متمسكًا بموقفه المتوازن.

  • 2303
  • 3:55 دقيقة
الصورة: ح.م
الصورة: ح.م

في واحدة من آخر حملاته العدائية تجاه الجزائر وذاكرتها ورموزها، لم يتردد النظام المغربي في توجيه أقلامه المأجورة للطعن في المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا، متهمًا إياه بأبشع النعوت، فقط لأنه دعا الرئيس إيمانويل ماكرون إلى "العودة إلى الشرعية الدولية" بخصوص ملف الصحراء الغربية المحتلة.

ومن خلال بعض منابره الإعلامية المشبوهة، شنّ المخزن المغربي هجومًا لاذعًا على ستورا، ونعته بـ "رمز فشل سياسة التهدئة الذاكرية" بين فرنسا والجزائر، وادعى أنه منحاز للجزائر ومعادٍ للمغرب. بل ذهب أبعد من ذلك، باتهامه بخدمة "أجندات سياسية" تحت غطاء البحث الأكاديمي، مستندًا إلى "جراحه الشخصية" في قسنطينة، وفق تعبيرهم.

ومن خلال مواقع إلكترونية تعمل كأذرع إعلامية موازية للمخزن، تم الترويج لسلسلة من الأكاذيب والإهانات ضد المؤرخ المعروف الذي ظل متمسكًا بموقفه المتوازن بخصوص قضية الصحراء الغربية، مؤكدًا ضرورة الالتزام بالقرارات الأممية، وهو ما جعله في نظر تلك الأقلام "عدوا".

كالعادة لم تُفوّت دوائر القصر فرصة التدخل في الشأن الجزائري، حيث اعتبرت تقرير ستورا حول الذاكرة (2021) بمثابة "كارثة"، وكأن العاهل المغربي يملك سلطة مراجعة أو المصادقة على الوثائق الرسمية للدولة الفرنسية!

وبفعل الحقد المستحكم، صُوّر ستورا فجأة كـ"متحدث باسم الجزائر"، واعتُبر أن تصريحاته "فاقدة للحياد"، وأنه يضر بالعلاقات الفرنسية الجزائرية. بل امتدت الادعاءات إلى القول إنه ضغط على الإليزيه دفاعًا عن جبهة البوليساريو، وهو اتهام عبثي لا يليق بأي نقاش أكاديمي محترم.

ولم تتوقف تلك الأقلام عند حدود الكذب، بل ذهبت إلى ما هو أدهى، حين اتهمت ستورا بالدفاع عن الرئيس عبد المجيد تبون، وسعت لتشويهه بوصفه "مؤرخًا مأجورًا" و"مصابًا نفسيًا"، فقط لأنه تمسك بمبادئ النزاهة الأكاديمية ورفض الانخراط في حملة تزييف الحقائق.

ومن المضحكات المبكيات أن يتحوّل أحد أبرز المؤرخين الفرنسيين إلى "عميل للجزائر"، في نظر كاتب مغربي متطفل على البحث الأكاديمي. والحال أن بنجامين ستورا معروف لدى الأوساط العلمية حول العالم بمصداقيته وموضوعيته في تناول ملفات الذاكرة، وهو من أوائل من دافعوا عن حق الشعوب في سرد رواياتها التاريخية بعيدًا عن الخطابات الرسمية الجاهزة.

فهل يُعقل أن تتهم أقلام المخزن مؤرخًا وضعت فيه الدولة الفرنسية، ممثلة في رئيسها، ثقتها الكاملة لتنسيق واحد من أكثر الملفات حساسية في العلاقات الفرنسية الجزائرية، لو لم يكن نزيهًا ومتمكنًا في مجاله؟ وهل من المنطقي مقارنة باحث رصين كستورا بشخصية جدلية وعنصرية كإيريك زمور؟ أليست هذه المقارنة وحدها كافية لفضح نوايا كُتاب الحملة ومن يقف وراءهم؟

أما الهجوم على ستورا من بوابة مقارنته ببوعلام صنصال، فهو محاولة يائسة لإدخاله في نفس الخانة، رغم البون الشاسع بينهما. فصنصال كاتب متورط في خطاب تحريفي توسعي، بينما ستورا باحث ملتزم بسرد الحقيقة التاريخية كما هي، لا كما يشتهي المخزن سماعها.

ولكاتب المقال أن يردّ على هيئة الأمم المتحدة وعلى الاتحاد الإفريقي وعلى أحرار العالم الذين لا يرضيهم أن تبقى الصحراء الغربية محتلة تتقاسمها الأطماع ويبقى شعبها مشرّدا في آخر مستعمرة بالقارة الإفريقية.

وحتى يتعلم كتبة المخزن وتنجلي عن أعينهم غشاوة الغل والحقد، فإن بنجامين ستورا يعدّ واحدًا من أبرز المؤرخين الفرنسيين المتخصصين في تاريخ الجزائر وتاريخ الاستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا والهجرة المغاربية إلى فرنسا.

وبفضل عشرات المؤلفات والأبحاث الموثّقة ضمن لنفسه موقعا رفيعا داخل المؤسسات الأكاديمية الفرنسية والدولية، باعتباره مرجعا لا غنى عنه في فهم العلاقات المعقّدة بين فرنسا والجزائر وفي تحليل تشكّل الذاكرة الجماعية المرتبطة بفترة الاستعمار.

منذ الثمانينيات، أسّس ستورا مقاربة جديدة لتاريخ الهجرة الجزائرية والمغاربية وركّز على أهمية "الذاكرة التاريخية". معتبرًا أن الصراعات السياسية الحديثة بين الدول لا تنفصل عن الجراح القديمة التي لم تُعالج بعد.

وقد قدّم في هذا السياق أعمالاً رائدة، أبرزها "حروب الذاكرة: فرنسا والجزائر"، "المنفى والذاكرة: يهود الجزائر من الاستعمار إلى اليوم"، "تاريخ الجزائر من 1830 إلى يومنا هذا".

وطبعا بفضل هذه الإسهامات، أصبح ستورا مستشارًا علميًا معتمدًا في ملفات الذاكرة، ليس فقط في فرنسا، بل على مستوى أوروبي ودولي، وهو ما أهّله لتكليف رئاسي رسمي من الرئيس إيمانويل ماكرون لإعداد تقرير عام 2021 حول سبل "تهدئة الذاكرة" بين باريس والجزائر وهو رئيس اللجنة الفرنسية المكلفة بملف الذاكرة.

ورغم الجدل السياسي الذي أثاره هذا التقرير، فإن القيمة الأكاديمية لعمله تبقى منفصلة عن التجاذبات الإيديولوجية.

فستورا لا يدّعي الحياد الكامل، بل يعلن صراحة أن خلفيته الثقافية وتجربته الذاتية تشكلان جزءًا من نظرته إلى التاريخ، وهو ما يتماشى مع تطور البحث التاريخي الحديث الذي يعترف بدور "الذات المؤرخة" دون أن يلغي المعايير العلمية.

وفي مواجهة الانتقادات، يؤكد العديد من الأكاديميين، أن ستورا لم يكن يومًا "مؤرخ نظام" ولا "ناطقا سياسيا"، بل باحثًا مدفوعًا بإرادة فهم الماضي ومحاولة بناء جسور بين الضفتين، انطلاقا من قناعة أن المصالحة لا تتم دون الاعتراف بالألم المشترك والذاكرة المنقسمة.

بنجامين ستورا، رغم الجدل، يبقى مؤرخا مرجعيا قدّم أدوات تحليلية رصينة لفهم آثار الاستعمار على المجتمعات المعاصرة، وأسهم في إثراء النقاش الأكاديمي والسياسي حول التاريخ، الذاكرة والهوية في الفضاء الفرنكوفوني.

ومما هو معروف لدى أهل الاختصاص بين الجزائر وفرنسا و الباحثين المنصفين، يبقى المؤرخ مشهودا له بالنزاهة العلمية والأكاديمية والدفاع عن قضايا الشعوب. فلمدة 63 سنة والمؤرخ ينتقل بين عواصم البلدان المغاربية والعالم، فكيف انقلبت عليه أقلام المخزن في هذا التوقيت الذي تزامن مع أشرس الحملات اليمينية المتطرفة الباحثة عن إعادة رسم الخرائط وتقسيم الأوطان.