+ -

لا يخفى على عاقل جواز الاختلاف في فروع الأحكام الشّرعية عقلاً وشرعًا، وأدلّ دليل على جوازه شرعًا وقوعُه من صدور الأمّة وأفضلها، وهم الصّحابة رضوان الله عليهم وفيهم أبو بكر وعمر وبقيّة الخُلفاء الرّاشدين، وبقيّة العشرة المبشّرين، وفقهاء الصّحابة وعلماؤهم، وهكذا من بعدهم من التّابعين وتابعيهم إلى يومنا هذا.❊ ما يُنكَر على أحد من المخالفين خلافه، إنّما ينكر عليه إن أُنْكِر طريقة قوله الّذي خالف فيه، أو خطؤه في فهمه، أو غير ذلك. قال الإمام الحافظ السيوطي رحمه الله في أوائل رسالته (جزيل المواهب في اختلاف المذاهب): “اعلم أنّ اختلاف المذاهب في هذه الملَّة نعمة كبيرة وفضيلة عظيمة، وله سرّ لطيف أدركه العالِمون وعمِي عنه الجاهلون، حتّى سمعت بعض الجهّال يقول: النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم جاء بشرع واحد، فمن أين مذاهب أربعة؟”. ورحم الله العلامة القسطلاني في كتابه (المواهب اللَّدنية) قال: إجماع العلماء حُجَّة، واختلافهم رحمة”.ولقد أعجبنا قول عمر بن عبد العزيز حينما قال: “ما أحبُّ أنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يختلفوا، لأنّه لو كانوا قولاً واحدًا كان النّاس في ضيق، وإنّهم أئمة يُقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة”. وفي مجموع الفتاوى لابن تيمية قال: صنَّف رجل كتابًا في الاختلاف فقال أحمد: لا تُسمِّه كتاب الاختلاف، ولكن سمِّه كتاب السَّعة. فالاختلاف كلمة تُوهم الشِّقاق والفُرقة، والسَّعة صريحة في الرُّخصة والارتياح واليُسر.ولهذا كان الأئمة الأعلام من ساداتنا العلماء يُحبُّون السَّعة في التّشريع، لأنّهم أدركوا أنّ السّعة مع اليُسر، وأنّ اليُسر مقصد أساسي من مقاصد الشّريعة الإسلامية. ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن أبي قيس قال: سألتُ عائشة عن وتر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيف كان يُوتِر: من أوّل اللّيل أو من آخره؟ فقالت: كلّ ذلك قد كان يصنع، ربّما أوتَر من أوّل اللّيل، وربّما أوتر من آخره، فقال: “الحمد لله الّذي جعل في الأمر سَعة”.يقول سفيان الثوري رحمه الله: “إنّما العلم عندنا الرُّخصة من ثقة، فأمّا التّشديد فيحسنه كلّ أحد”. ولمّا عُرِض على الإمام مالك رحمه الله حمل النّاس على “مُوَطَّئِه” رفض حملهم على مهذب واحد، حُبًّا في التّوسعة عليهم، فأجاب هارونَ الرّشيد بقوله: “إنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اختلفوا في الفروع، وتفرّقوا في الآفاق، وكلّ عند نفسه مصيب”. وهذا فيه: احترام الإمام مالك لآراء الأئمة الآخرين، مع أنّه إمام مجتهد، فما يقول إلاّ بعد بذل الجهد واستفراغ الوُسع وترجُّح أنّه هو الصّواب لا غيره، ومع ذلك أقرَّ المخالفين وأتباعهم على ما هم عليه، وما رضي بحمل الخليفة لهم على قوله ومذهبه.وهناك نماذج من واقع ساداتنا الأئمة تدلّ على سعة علمهم وأدبهم عند الاختلاف في المسائل الفرعية فيها، قال يونس بن عبد الأعلى الصَّدفي وهو خاصة تلاميذ الإمام الشّافعي: “ما رأيتُ أعقل من الشّافعي، ناظرتُه يومًا في مسألة، ثمّ افترقنا ولم نتّفق فيها على رأي، ولقيني فأخذ بيدي ثمّ قال: يا أبا موسى، ألاَ يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتّفق في مسألة”. وورد خبر آخر: قال عبد الله بن عمر لابنه: “يا بني لأن تتعلَّم بابًا من أبواب الأدب أحبّ إليَّ أن تتعلّم سبعين بابًا من أبواب العلم”.

عضو المجلس العلمي لمدينة الجزائر

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات