لا يمكن إنكار أن وادي الحراش "الشهير" لم يعد كما كان قبل عشر سنوات.. ضفتيه اليوم مؤمّنة، وممراته صارت فضاءات للتنزه والرياضة. لكن "القلب" ما زال مريضا.. مياه مجرى الوادي ملوثة، والمشهد يحتاج إلى رقابة والتزام جماع ومجتمعيي حتى يكتمل حلم تحويل الوادي إلى فضاء حضري ترفيهي نظيف، مثلما تم تحويل المفرغة العمومية وادي السمار (طيميط) إلى حديقة خضراء ومركز راحة وترفيه للعائلات الجزائرية.
كان سكان الجزائر العاصمة وقاصديها أيضا، لسنوات، يصفون وادي الحراش بـ "الوادي الأسود" لما يحمله من روائح كريهة ومشهد قاتم من النفايات الصلبة والمياه العادمة. ومع إطلاق مشروع تهيئة ضخم منذ أكثر 13 سنة، ارتفعت التطلعات إلى أن يتحوّل الوادي إلى رئة بيئية جديدة للمدينة. غير أن الواقع الحالي يكشف مفارقة: أشغال التجميل والتهيئة بلغت مراحلها النهائية، لكن نوعية المياه ما زالت متأثرة بملوثات لم تُحسم بعد.
من مجرى مهمل إلى ورشة حضرية كبرى
يمتد وادي الحراش على مسافة 67 كيلومترًا، منها أكثر من 18 كيلومترًا تخترق اقليم ولاية الجزائر العاصمة. منذ عقود، تحوّل المجرى إلى مصبّ للملوثات الصناعية والمنزلية. ودفع هذا الوضع السلطات العمومية إلى إطلاق مشروع وطني طموح يقوم على:
تطهير القاع وتجريف الترسبات، وحماية ضفتي الوادي بإنشاء جدران سند، وتهيئة مناظر طبيعية ومسارات للمشاة والدراجات وعشاق الرياضة، وإستحداث فضاءات رياضية وترفيهية على طول المجرى، وكل ذلك مع مرافقة المؤسسات الصناعية والوحدات الانتاجية لتركيب أنظمة معالجة مسبقة.
ولم يكن رهان السلطات العمومية مرتبطا بالبيئة، فحسب، بل، أيضا، رهانا حضريا، يتمصل في تحويل مجرى واد ملوث إلى متنفس للعاصمة، وتحويل "ذاكرة صناعية" إلى فضاء عمومي جاذب.
غير أنه ورغم الاستثمارات الضخمة وأغلفتها المالية المخصصة للمشروع، بقيت نوعية المياه محل انتقاد واستياء وتقزز. وعند تطرح السؤال على الإيكولوجيينوأخصائيي الري، لا تسمع إلا ردا واحدا مشتركا بينهم: "مجرى وادي الحراش يعاني من مصادر تلوث متعددة ومستمرة مزمنة"
ويؤكد هؤلاء أن مصادر التلوث الرئيسية لمجرى وادي الحراش، هو الصرف الصناعي التي مصدرها مناطق صناعية مثل وادي السمار، بابا علي، جسر قسنطينة، وبراقي التي ما زالت تضخ كميات متفاوتة من المياه الملوثة، علاوة على الصرف الصحي المنزلي، إذ أن بعض الأحياء السكنية ما تزال تربط شبكاتها مباشرة بالمجرى بدل محطات التصفية.
كما يتحدث الإيكولوجيون عن مشكلة النفايات الصلبة على طول الوادي، حيث مشهد البلاستيك ومخلفات البناء ما زال حاضرًا في مقاطع عديدة، وهذه العوامل مجتمعة تجعل جهود التهيئة معرضة للانتكاس ما لم تُحسم مشكلة التلوث من المنبع.
الصناعيون بين الامتثال والتأخر
كانت إحدى ركائز مشروع تهيئة وادي الحراش وتحويله إلى مرفق جذب سياحي وترفيهي، إلزام المؤسسات والوحدات الصناعية القريبة من الوادي بتركيب محطات أو تجهيزات للمعالجة الأولية لمياهها المستعملة. وبلغ عدد الوحدات الصناعية المحصاة على طول المجرى: 123، أما عدد الوحدات التي استجابت وتمت مرافقتها، فبلغ 84 مؤسسة، أي بنسبة استجابة مقدرة بنحو 68%.، أما البقية،أي 39 مؤسسة لم تستكمل بعد التجهيزات المطلوبة.
وتكشف هذه الأرقام أن التزامًا جزئيًا تحقق، لكنه يبقى غير كافٍ لضمان مياه نظيفة. فحتى إذا التزمت غالبية المصانع، يكفي بقاء أقلية مخالفة لإفساد نوعية المياه.
"تحسّن المنظر… لكن الرائحة باقية"
في جولة ميدانية بين بلديات الحراش وبراقي، رصدنا شهادات متباينة، يقول من تحدثنا إليهم: "الوادي تغيّر شكله كثيرًا، أصبح محاطًا بمسارات جميلة، لكننا ما زلنا نغلق النوافذ في الصيف بسبب الروائح"، فيما يؤكد شباب آخرون بالقول: "نمارس الرياضة قرب الوادي، لكن منظر النفايات التي "تزيّن" طول المجرى، يفسد المتعة"، وتلخص بعض تلك الشهادات التناقض القائم: تحسّن عمراني واضح يقابله استمرار مشكلة بيئيةلم تحلّ.
"إيكولوه" مؤسسة عمومية جديدة للتسيير
مع استكمال الأشغال، أنشأت السلطات العمومية مؤسسة "إيكولوه"، EPIC ECOLOH، وهي مؤسسة عمومية ولائية مكلفة بتسيير وادي الحراش المهيأ وترقيته لولاية الجزائر، مكلفة بتسيير وادي الحراش وما أُنجز من فضاءات. وشرعت هذه المؤسسة في إطلاق مناقصات تخصّ، صيانة المساحات الخضراء، السقي وتنظيف الممرات، تسيير الأنشطة التجارية والخدمية على ضفاف الوادي، غير أن نجاحها يبقى مرهونا بمدى قدرتها على فرض رقابة بيئية صارمة على الوحدات الصناعية وربط المواطنين بمسؤولية الحفاظ على الفضاء.
البعد البيئي: فيضان أقل، تلوث أكثر؟
من الناحية التقنية، وفّر المشروع حماية أفضل من أخطار الفيضانات، إذ صُمم المجرى ليستوعب فيضانًا بمستوى تكرار 100 سنة. كما حسّن الجريان لتفادي ركود المياه. لكن من الناحية البيئية، ما زال التحدي قائمًا: إزالة التلوث تتطلب التزامًا كاملاً من جميع الفاعلين.
مشروع تهيئة وادي الحراش هو نموذج عن التحدي البيئي الحضري في الجزائر، والعمل على الاجابة على الإشكال التالي: كيف نوازن بين الاستثمار في البنية التحتية وبين ضمان الامتثال البيئي الدائم؟ والإجابة مرهونة بصرامة الرقابة على الوحدات الصناعية، بفعالية محطة براقي، وبوعي السكان أيضا. عندها فقط يمكن أن يتحول الوادي من رمز للتلوث إلى قصة نجاح بيئية تعيد للجزائر العاصمة رئة كانت مفقودة.
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال