الوطن

شهداء "غار الباراج" بالمسيلة.. أهل الكهف أو تماثيل عز في زمن الوطن الحر

اكتشفهم حراس الغابات عن طريق الصدفة بعد 17 سنة من الاستقلال

  • 2909
  • 4:50 دقيقة
شهداء "غار الباراج" بالمسيلة، الصورة: م.ح
شهداء "غار الباراج" بالمسيلة، الصورة: م.ح

يتساءل الكثير ممن لا علاقة لهم بالتاريخ، خاصة تاريخ ثورة التحرير في عاصمة الحضنة، عن جدوى وجود معهد للتاريخ في جامعة تسمى جامعة الشهيد محمد بوضياف بالمسيلة، تحمل اسم واحد من مفجري الثورة الستة وتزهو بمعهدها المذكور، في حين لا يخوض كل هذا الكم من أساتذتها ودارسيها طيلة سنوات، إن لم نقل عقودا مضت من افتتاحها، في موضوع شهداء "غار الباراج"، أو كما صار يطلق عليهم "فتية أهل الكهف" بعد ذلك أو بعد اكتشافهم في العام 1979، أي بعد 17 سنة من احتفال الجزائر باستقلالها في الخامس من شهر جويلية 1962، بعدما كانوا طيلة تلك المدة مسجلين في عداد "المفقودين".

الغريب في كل ذلك أنه تم الاحتفاء بهم في تلك الفترة بإعادة دفنهم في مقابر الشهداء وإطلاق أسمائهم على البعض من شوارع المدينة، ومن ثم دخلوا، بقدرة قادر، عنوة وعن غير قصد، في دائرة النسيان. وإن كان الأمر كذلك وإن كان لا يمر حتى تحت مبرر دون قصد، كما أسلفنا، فإنه وإن كان هؤلاء فتية دفعوا أرواحهم ثمنا ليزهر الوطن، فإن العتب على الذين يدرسون التاريخ ويتبجحون بوجودهم على رأس معهد من هكذا قبيل، لم يحاولوا ولوم إماطة اللثام عن هؤلاء وتاريخهم، من هم؟ وكيف ماتوا؟ وكيف ظلوا طيلة هذه السنوات مغيبين في غار، دون أن توضع بشأنهم دراسات ومقالات في التاريخ التي تكتب عادة عن وقائع تاريخية أخرى بعيدة عنا وعن تاريخنا المجيد وتؤخذ في العادة بكثير من التحليل والمقاربة. أقول لكم إن الأمر مازال على حاله طيلة هذه العقود التي مضت من عمر الاستقلال، كل عام تمر ذكرى الثورة وتختزل في احتفالات رمزية هنا وهناك، أما هؤلاء فيبقى أجرهم وما عملوا على الله وما قدموا من زكوات دماء لأجل الوطن ولا شيء غير الوطن حتى إشعار آخر.  

هذه المقدمة وغيرها تدفعني إلى القول بالجزم إن الكثير من أجيال الاستقلال مازالت تجهل إلى حد الآن تاريخ الثورة ولا مع من حدثت، وليس هناك مبالغة في القول ضد من اندلعت، باعتبار أن المئات من أبناء هذا الجيل والذي قبله يجهل أو لا يعرف ما هو الفاتح من نوفمبر ولا المغزى من الاحتفال به؟ ولا أدل على ذلك ما تعرفه أجيال المسيلة وما تجهله عن قصة أهل الكهف أو "شهداء غار الباراج".

 15 من خيرة أبناء المدينة، رمتهم السلطات الاستعمارية داخل غار بمنطقة "الباراج" ذات يوم أسود من 5 جويلية 1958، ولم يتم اكتشاف أجسادهم الطاهرة إلا بعد مضي 17 سنة من عمر الاستقلال، والمكتشف كان حرّاس الغابات الذين مروا على طريق الصدفة ليجدوا أنفسهم أمام مقبرة جماعية، كاد هؤلاء أن يحرموا من دخول كتاب التاريخ لولا تلك الصدفة العجيبة ذات يوم كذلك من 3 نوفمبر 1979، بعدما كانوا مسجلين في عداد المفقودين لسنوات طويلة.

قصة "أهل الكهف" أو "غار الباراج"، التي لا تزال غائبة عن أذهان الكثير من الأجيال الجديدة، ولا يكاد يعرف من كان عهده بأول سنوات الاستقلال، إلا ذلك الحدث التاريخي الذي شهدته مدينة المسيلة والذي كان الأكثر تأثيرا في الذاكرة الجماعية لهذه الأخيرة، كونه أعاد إلى الأذهان جزءا مفصليا من التاريخ الثوري لأبنائها والبشاعة التي خلفتها جرائم فرنسا الاستعمارية في عاصمة الحضنة، التي قدمت، إلى جانب ما قدمت ولايات أخرى من الوطن، الغالي والنفيس من أجل تحرير الأرض والإنسان، وتاريخ 23 نوفمبر الذي بدا في ذلك اليوم الذي ورغم مرور 17 سنة المسافة الفاصلة بينه وبين تاريخ الاستقلال، جويلية 1962، وإن كان حينئذ نقطة البداية في إعادة ترتيب التاريخ النضالي للمنطقة، رغم أن هذا الأخير كان ناصعا منذ الوهلة الأولى وليس أدل على ذلك وجود أب الثورة "سي الطيب الوطني" من ضمن خمائر الولاية رقم 28، والخميرة الأولى التي انصهرت في بوتقة النضال، إلا أن هذا التاريخ استطاع أن يصحح الكثير من الروايات المغلوطة، إن حول الوقائع وبعض التفاصيل أو حول الأشخاص وأعاد بذلك هذا التاريخ الذي لم يكن فحسب احتفالا لإعادة دفن رفات الشهداء سنة 1979 من القرن الماضي،وإنما كان عاما لتصحيح بعض المفاهيم حول ما قيل قبله حتى تلك اللحظة.

15 شهيدا كانت اعتقلتهم السلطات الاستعمارية في الخامس من شهر جويلية 1958 ليتم اكتشافهم بعد مضي 17 عاما من الاستقلال، أهل الكهف أو أهل الغار، أو سمّ كما شئت، هم ثلة من الشهداء، أمثال الإمام السعيد مشتى، بلقاسم فلوسية، لخضر حمينة لخضر، عبد العزيز بن يحيى، الحسين محمدي، أحميدة بن شادي، عيسى بن يونس وأخيه الهاشمي بن يونس، بلقاسم بن الذيب، المداني حماني، الطاهر إبراهيمي، بلقاسم شيكوش، عبد الله لعيدي، محمد بعجي وأخيرا شريد عبد الحفيظ، قائمة "شهداء الغار" التي لم تلق بعد كل هذه العقود التي مضت حظها من الإنصاف والإشادة والتكريم، كأن يقام لهم يوم أو ملتقى سنوي للاحتفاء بذكراها، فيما عدا واحدة من المحاولات اليتيمة التي بدأت وانتهت بمجرد إسدال الستار عليها، واقتصر الأمر على اكتشاف أجسادهم الطاهرة وإعادة دفن رفاتهم، فيما لاتزال قصتهم في عداد الذاكرة المنسية.

 كان حريا أن تقام لهؤلاء تماثيل عز في كل مكان وليس يافطات على أبواب مرافق عمومية ومؤسسات تربوية وغيرها، ولا حتى ملتقيات سنوية يعاد فيها الحديث عن مآثرهم ونضالهم، حتى أن الكثير لايزال يجهل إلى حد الآن قصة شهداء الغار. ورغم أن الشواهد كثيرة إلا أن ذلك لم يستدع حتى وضع لوحات تعريفية بهذه الثلة التي قضت في سبيل الله والوطن، دافعة بذلك دماء زكية من أجل أن يزهر الوطن وينعم بالحرية، حتى أن المهتمين فرطوا بذلك في شهادات هذه الأحداث ولم يغتنموا فرصة وجود العديد من الوجوه التي عاصرت هؤلاء وشاركتهم أيام النضال وهم أحياء لخطف بعض الشهادات الحية من أفواههم قبل أن يرحلوا إلى بارئهم بسنوات طويلة، والدليل أن لا أحد يعلم من أجيال ما بعد الاستقلال ماذا يمثل "المكتب الثاني" الموجود في قلب المدينة القديمة، الذي يقطنه أحد مالكيه حاليا، هذا الأخير عذب فيه المئات من أبناء المدينة ولم يظفر في الأخير سوى بلافتة على مدخله، وهو دون شك المحطة التي عرج منها شهداء الغار إلى قدرهم المحتوم في "غار الباراج" وإعدامهم بعد ذلك.

يأمل جيل اليوم من أبناء المدينة أن يتم تحويل موقع الغار أو الكهف الذي أعدم فيه 15 شهيدا إلى مزار تاريخي وأن تدرس إمكانية تنظيم ملتقى سنوي يستذكر فيها هؤلاء الأبطال ويحتفى بذكراهم وبمآثرهم، على غرار ما هو حاصل لعدد من أبطال الثورة في العديد الولايات، على الأقل من باب التنوير وإعطاء العبر والدروس وتلقين الأجيال الجديدة كيف يزهر الوطن بهؤلاء وأمثالهم كثير؟