مرّت على الأمة الإسلامية مُدَدٌ بلغت من الضعف ما بلغت، وجللها من الهوان ما جللها، وظنّ أعداؤها أنها تحتضر، بل شك بعض أبنائها في دينهم، وحسبوا أنّ أمتهم قد ماتت، فكفروا بها، وكفروا بدينهم، وانسلخوا من هويتهم، وتقمّصوا هوية عدوهم المتغلب، غير أنه سرعان ما استدار الزمان، وتبدّل كل ذلك، وذهبت ظنونهم هباءً، وصارت شكوكهم عليهم عناءً، وثبت الحق وأهله: {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
ولا ريب أنه حين تضعف الأمة وتلامس الحضيض أو تبلغه يلّف أبناءها الحزن واليأس، ويعمّ أعداءها الفرح والأمل في التخلص منها، فتكثر شكوى الأولين، ويتضخم تفاؤل الآخرين، ثم حوادث الزمان تخيّبهم، وتفرح المؤمنين: {ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}. هذه سنة من الله التي لن تجد لها تحويلا ولا تغييرا، ولا تبديلا، وهذا ما نعيشه في هذه الأزمان وإن غفل أكثر الناس.
وسأذكر حالين تحققت فيهم سنة الله تعالى هذه وظهرت معالمها للعيان، الأولى قديما حين غزا الأمة الإسلامية المغول من الشرق، والفرنجة الصليبيون من الغرب، إذ يقول فيليب حتى اللبناني الأمريكي ما معناه: ”في بداية القرن السابع أطبق المغول على العالم الإسلامي من الشرق، والصليبيون عليه من الغرب، فكان بين كماشتين، فقال الناس: لن ينتهي هذا القرن حتى لا يبقى للأمة المحمدية من أثر، وما إن أهلّ القرن الثامن حتى قال الناس منبهرين: لن يثبت أمام الأمة المحمدية من أحد”. وهكذا انقلب المغول مسلمين، وأسسوا إمبراطورية إسلامية من أعظم الإمبراطوريات في التاريخ. وانقلب الصليبيون خائبين مخزيين في هزيمتهم.
والثانية: عند تهاوي السلطنة العثمانية العظيمة، إذ تبين الحالة المزرية التي وصل إليها الشيخ مصطفى صبري آخر شيوخ الإسلام في السلطنة، الذي نفي إلى اليونان، وهناك حُوصر وضيّق عليه، ورفضت كل الدول الإسلامية منحه تأشيرة لدخولها بضغط من الاستعمار وحكومة أتاتورك، ولم يتعاطف معه إلا قساوسة اليونان، تصوّر أن شيخ الإسلام بمقامه الرفيع ومكانته الرمزية يضيع هذا الضياع!، ثم بعد محنة شديدة، يدخل مصر، ويعيش فيها أشهرا طويلة لا طعام له إلا الفاصوليا والشاي صباح مساء، ويعيش في معاناة رهيبة هو وأهله، يروي طرفا منها تلميذُه الأديب والمفكر التركي علي عُلْوِي قُورُوجو في كتابه ((في صحبة الشيخين شيخ الإسلام مصطفى صبري ووكيله الإمام الكوثري))، ولا يتجرأ أحد من المسلمين مهما كان مقامه من مدّ يد المساعدة إليه، خوفا من الاستعمار، ومن حكومة تركيا الانقلابية العلمانية، هذا حال شيخ الإسلام برمزيته، ولا تسأل عن حال أمم الإسلام وهي ترزح تحت نير الاستعمار أو تحت نير الاستبداد العلماني الذي أوكل إليه إتمام مهامه! لكن ما هي إلا سنوات معدودات وتتحرر أغلب الدول الإسلامية، ولم تبق إلا فلسطين، ولم يبق إلا القليل وستتحرر كما وعدنا الله سبحانه، فتباشير التحرّر أظهرها طوفان الأقصى حتى للعميان: {ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا}.
ولم تمر أيضا إلا عقود معدودات وتنبعث الصحوة الإسلامية المباركة، والتي رغم ما شابها من نقائص وسلبيات إلا أنها أعادت أجيالا من شباب الأمة إلى دينهم وهويتهم، ومازال مسارها مستمرا، تكبو وتنهض، وتضعف وتقوى، وتخطئ وتصيب، وسترى انبعاثا جديدا متجددا قريبا، فمع أحداث غزة العزة، وما رأى فيها الناس من مآثر الإيمان، وصور البطولة، في مقابل خذلان الأمة لها وتواطؤهم مع أعدائها؛ لدرجة (تبرير) الخيانة وتلميع الخائنين بفتاوى دينية، وما سبق ذلك وصحبه من ردة علنية بالترويج للديانة الإبراهيمية الكفرية، وما تبع ذلك من مأساة السودان الفاجعة، يقول كثير من الناس الآن: متى يأتي نصر الله؟ وإلى متى هذا الذل والهوان؟ وسنة الله قاضية أنه ببلوغ هذا الحضيض الذي يشتكي منه الناس، يأتي الفرج والنصر والانبعاث بفضل الله تعالى: {حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا جاءهم نصرنا فننجي من نشاء ولا يُرَد بأسنا عن القوم المجرمين}. وهذا ما أشار إليه أيضا الحديث الذي يتحدث عن حال البشر قبل البعثة النبوية الشريفة: «ثم إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عجميهم وعربيهم، إلا بقايا من أهل الكتاب» رواه مسلم، إذ لما وصلوا إلى الحضيض واستحقوا مقت الله جل في علاه، جاءهم الفرج من الله تعالى وأكرمهم سبحانه بخير كتاب أنزل، وبخير نبي أرسل؛ لتظهر خير أمة عرفها الناس: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}. وفي التاريخ القريب يذكر كثير من الناس الحال الذي وصلت إليه الأمة - أو بالأحرى أوقعها فيه حكام العرب والمسلمين في تلك الحقبة، ومن كان يمجدهم من النخبة والمثقفين - بعد النكسة عام 1967م، والعاقلون العالمون يدركون جيدا أن ذلك الحضيض كان نقطة انطلاق وانبعاث للصحوة الإسلامية، ولتيارات أخرى سعت للنهوض بالأمة بعد سقوطها، ورفع قدرها بعد ذلّها، وها هم اليوم تلامذتهم وأشباههم من حكّام ونخب أوقعوا الأمة في شرّ مما وقعت فيه، وسينبعث من هذا الحضيض طوفان الصّحوة أشد من السابق، وأقوى وأهدى، سنة الله التي لا تتبدل ولا تتحول. وإن غدا لناظره قريب.
الخبر
04/12/2025 - 00:02
الخبر
04/12/2025 - 00:02
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال