الوطن

مساهمة: "منطقة القبائل ليست جزيرة مجنونة"

"مشروع الانفصال هو مجرد سجل تجاري تقتات منه شرذمة متطرفة في فرنسا".

  • 3182
  • 3:57 دقيقة
الصورة: ح.م
الصورة: ح.م

لم تكن منطقة القبائل (الزواوة) في ماضيها ولا في حاضرها، جزيرة مجنونة معادية للمحيط الوطني حسب الحكمة الصينية، بل أكد التاريخ - كما سنرى- أنها بمثابة القلب النابض للجزائر، وعليه فإن فكرة الانفصال لا تعدو أن تكون سوى مظهرا لخيانة رسالة الشهداء الداعية إلى العض بالنواجذ على الوحدة الوطنية.

لا شكّ أنّ النزعة الانفصالية بذرة غريبة عن مجتمعنا، خرجت من رحم المخابر الكولونيالية في القرن 19م في إطار سياسة "فرّق تسد"، وقد تصدى لها أجدادنا بنجاح طيلة فترة الاحتلال الفرنسي، لكنها لم تلبث أن عادت إلى الواجهة بعد استرجاع السيادة الوطنية، لأسباب كثيرة، منها إقصاء العنصر الأمازيغي من الشخصية الوطنية، وهو خطأ ارتكب في مطلع الاستقلال حسب شهادة الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.

أمام تفاقم أزمة الهوية، حدث أن اعتنق تيار متطرف عندنا في منطقة القبائل، فكرة الانفصال كحل لهذه المشكلة. وقد تفطنت الدولة في عهد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة - رحمه الله- إلى خطورة الوضع، فكان أن اتخذ قرارا تاريخيا حاسما يقضي بإدراج الأمازيغية لغة وطنية في الدستور، وبذلك سحب البساط من تحت أقدام دعاة الانفصال المدعمين من طرف أعداء الجزائر وفي مقدمتهم فرنسا المهزومة التي لم تهضم خروجها من الجزائر صاغرة.

فصار هؤلاء الانفصاليون بمثابة حصان طروادة في يدها، لابتزاز الجزائر وللتشويش على سياستها المتحررة من نفوذ فرنسا، زيادة على ذلك فقد ارتموا في أحضان شِرذمة "شذاذ الآفاق" الذين يتربصون بالجزائر الدوائر.

والحق أن مشروع الانفصال هو مجرد سجل تجاري تقتات منه شِرذمة متطرفة هناك في فرنسا، تحظى بالدعاية التي يوفرها لها الإعلام المأجور. وها هو كبير الأفاكين يعلن هذا اليوم 14 ديسمبر 2025م ما سماه بالاستقلال، وهو استقلال وهمي بدون شعب وبدون أرض، لأن سكان منطقة القبائل متمسكون بوطنهم الجزائر الذي حرروه من نير الاستعمار الفرنسي بتضحيات جسام.

ولعل ما يؤكد إفلاس دعاة الانفصال، طردهم منذ أيام قليلة من حفل غنائي أقامه المغني رابح عصمة في مدينة ليل الفرنسية، فخرجوا يجرون أذيال الهزيمة. فإذا كان هذا حالهم في فرنسا التي يفترض أنها تشكل قلعة لهم، فما بالكم بمنطقة القبائل المعروفة بكونها قلعة للكفاح الوطني التحرري منذ أن وطأت أقدام الهمجية الفرنسية أرض الجزائر الطاهرة يوم 14 جوان 1830!.

ورغم أنه لا يجوز الشك في وطنية أهل منطقة القبائل (الزواوة)، فلا بأس من تقديم بعض المعالم التاريخية التي تؤكد أنها بمثابة القلب النابض للجزائر ولا حياة لها خارج الجزائر. لقد كانت مدينة بجاية عاصمة للجزائر في القرون الوسطى، في زمن الدولة الحمادية الناصرية التي قال عنها الشاعر الحسن بن الفكون القسنطيني:

دع العراق وبغداد وشامهما «●» فالناصرية ما إن مثلها بلد

ومن أمجاد بجاية الجزائرية، أذكر اللقاء الذي جمع بين مؤسسي الدولة الموحدية، محمد المهدي بن تومرت المراكشي وعبد المؤمن بن علي الكومي الندرومي، وكذا دورها في نقل المعارف إلى أوروبا (منها الأرقام العربية).

وكانت جامعتها منارا للعلم استقبلت محي الدين بن عربي، وسيدي بومدين شعيب، وعبد الرحمن بن خلدون، والشاعر بن هانئ الأندلسي (متنبي الغرب الإسلامي)، وغيرهم من العلماء.

وارتبط دخول الأخوين عروج وخير الدين العثمانيين إلى الجزائر، باستنجاد الزواوة بهما، بعد أن تعرضت مدينة بجاية للاحتلال الإسباني سنة 1510م، حسب شهادة المؤرخ ابن عساكر الواردة في كتابه: "دوحة الناشر" وهو من القرن 16م.

وعندما تعرضت الجزائر للعدوان الفرنسي في جوان 1830م، استجاب الزواوة لنداء الداي حسين، فجندت زواياهم حوالي 25 ألف مجاهد شاركوا في معركة اسطاوالي، واستمرت المقاومة الشعبية تحت قيادة شيوخ الزوايا بدون انقطاع إلى سنة 1871م التي شهدت انتفاضة كبرى بقيادة الحاج محمد المقراني والشيخ محمد أمزيان بن حداد، امتد مداها نحو الشرق والجنوب والغرب حتى كادت أن تقضي على الاحتلال الفرنسي.

واعتنق الزواوة بعد الحرب العالمية الأولى الكفاح السياسي منذ ظهور حزب نجم شمال إفريقيا بفرنسا سنة 1926م. وفي سنة 1939م قدمت منطقة القبائل أول شهيد للحركة الوطنية الاستقلالية وهو أرزقي كحال، وكانت جنازته في عرش آث يعلى من الأيام المشهودة في تاريخنا المعاصر. وبعد ظهور المنظمة الخاصة المكلفة بإعداد الثورة المسلحة سنة 1947م احتضنتها منطقة القبائل، بل وأكثر من ذلك ترأسها المجاهد الراحل حسين أيت أحمد بعد وفاة رئيسها الأول محمد بلوزداد (رحمهما الله)، وكان المجاهد كريم بلقاسم (رحمه الله) قد اعتصم بالجبال منذ سنة 1947م، ساعيا لإعداد العُدة لتفجير الثورة.

أما دور منطقة القبائل في تفجير ثورة أول نوفمبر 1954م، فهو أشهر من نار على علم، إذ شكلت في تنظيم الثورة "المنطقة الثالثة" تحت قيادة المجاهد كريم بلقاسم، وتم سحب "بيان أول نوفمبر" ببيت المجاهد علي زعموم بقرية إغيل إموله التابعة لولاية تيزي وزو حاليا. واحتضنت أيضا مؤتمر الصومام التاريخي الذي أعطى نفسا قويا للثورة كما هو معلوم.

وترأس المجاهد كريم بلقاسم وفد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في مفاوضات إيفيان التي كللت بالنصر، وعاد شرف رفع العلم الجزائري في سيدي فرج بعد استرجاع السيادة الوطنية سنة 1962م إلى العقيد محند أولحاج (قائد الولاية الثالثة).

هذا غيض من فيض مما يمكن أن يقال عن البعد الوطني لمنطقة القبائل (الزواوة) عبر تاريخها الطويل. فأي قوة يقول عاقل تستطيع أن تفصلها عن الوطن الغالي، لولا الظنون الكواذب؟!. أود في الأخير أن أنبه الرأي العام إلى أن أكبر نصير للنزعة الانفصالية، هم مروجو خطاب الكراهية الذي ما زال يستهدف المنطقة.

*مؤرخ وبرلماني سابق