الوطن

دريانكور يتهم واشنطن ولندن بـ"التواطؤ" مع الجزائر

يبدو أن الدبلوماسي السابق، الذي تخصص منذ تقاعده في ضرب الجزائر والتهجم على خياراتها، لم يتخل بعد عن عدسته القديمة التي كانت ترى الجزائر دوما من خلال مرآة النفوذ الثقافي الفرنسي.

  • 3272
  • 2:55 دقيقة
الصورة : ح.م
الصورة : ح.م

أطلق السفير الفرنسي السابق في الجزائر، كزافيي دريانكور، تصريحات غارقة في التناقض و"الأبوية"، اتهم فيها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بـ"التآمر" مع "الحكومة والجيش والإسلاميين" في آن واحد، من أجل محو اللغة والثقافة الفرنسية من الجزائر وإحلال اللغة الإنجليزية محلها في التعليم والإدارة وغيرها.

في مقابلات إعلامية وتصريحات جديدة نُشرت على مواقع فرنسية أول أمس، اعتبر دريانكور أن السلطات الجزائرية تعمل على التخلص التدريجي من اللغة الفرنسية، ليس لصالح اللغة العربية فحسب، بل أيضا لصالح اللغة الإنجليزية، التي تقدم اليوم كرمز للحداثة والانفتاح الدولي.

وأضاف أن الدول الأنجلوساكسونية، أي الولايات المتحدة وبريطانيا، تُظهر "اهتماما كبيرا" بهذا التحول وتدعم الجزائر في هذا المسعى، ولو بطرق غير معلنة، معتبرا أن الأمر لا يخلو من بعد استراتيجي وجيوسياسي يتجلى، حسبه، من خلال منشورات سفارتي واشنطن ولندن عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي تشجع، حسبه، على دراسة الإنجليزية ومضاعفة عدد المنح للطلبة الجزائريين، منتقدا النهج الذي تسلكه هذه السفارات التي أضحت متهمة، حسبه، "بإغراء الشباب على التطلع نحو المستقبل في العواصم الأنجلوسكسونية".

يبدو أن الدبلوماسي السابق، الذي تخصص منذ تقاعده في ضرب الجزائر والتهجم على خياراتها، لم يتخل بعد عن عدسته القديمة التي كانت ترى الجزائر دوما من خلال مرآة النفوذ الثقافي الفرنسي.

فتصريحاته الأخيرة، التي اتهم فيها الولايات المتحدة وبريطانيا بـ"التواطؤ" مع الحكومة الجزائرية لإزاحة اللغة الفرنسية من المشهد لصالح الإنجليزية، تكشف أكثر مما تُخفي عن عقلية مازالت أسيرة لفكرة "الوصاية اللغوية" التي تمارسها الكثير من النخب في باريس منذ عقود على مستعمراتها السابقة.

بعيدا عن الموضوعية، تنم تصريحات دريانكور عن حنينٍ واضح إلى زمنٍ كانت فيه اللغة الفرنسية تفرض باعتبارها "لغة النخبة" و"رمز الحداثة"، بينما يغفل أن الجزائر تعيد صياغة خياراتها الثقافية والتعليمية في إطار سيادي خالص، يستجيب لتحولات عالمية بعيدا كل البعد عن منطق "المؤامرة" الذي يلوح به "الدبلوماسي" الفاقد للموضوعية.

فالتحول نحو الإنجليزية ليس "مشروعا أنجلوساكسونيا" كما يروج، بل أضحى خيارا استراتيجيا تنتهجه دول كثيرة، عربية وأوروبية وآسيوية، لتوسيع آفاق البحث العلمي والتعاون الاقتصادي والتكنولوجي.

الحديث عن "تآمر" أو "تواطؤ " بين الجزائر وواشنطن ولندن يُظهر مقدار القلق الفرنسي من تراجع نفوذ لغتها في الفضاء المغاربي والإفريقي أكثر مما يُظهر أي تهديد حقيقي للهوية الثقافية الجزائرية.

إذ تسعى الجزائر، حسب التصريحات والإجراءات الميدانية، منذ سنوات، إلى تنويع شركائها والانفتاح على لغات الاقتصاد والتكنولوجيا دون أن تتخلى عن اللغة الفرنسية التي تدرس في جميع الأطوار، وتدفع الجزائر من أجل ذلك ميزانيات ضخمة لتكوين المدرسين في مدارس عليا وتوظيفهم في مختلف المؤسسات العمومية.

وخلافا لهذيان دريانكور وزمرته، فالتوجه اللغوي الجديد لا يلغي الفرنسية، بل يُعيد وضعها في حجمها الطبيعي كلغة أجنبية ثانية، لا لغة وصاية كما يتردد في الخطاب الرسمي.

كما أن تصوير الجزائر وكأنها تتعرّض لـ"إغراء لغوي" من قبل السفارات الأجنبية فيه انتقاص واضح من وعي المجتمع الجزائري الذي يمتلك إرادته وخياره في تحديد لغات مستقبله.

فالأجيال الجديدة لا تنظر إلى الإنجليزية كبديل أيديولوجي، بل كأداة للتقدم والمنافسة في عالم لا مكان فيه للانغلاق اللغوي.

ما يثير الاستغراب هو أن دريانكور، الذي يفترض أنه خبير دبلوماسي وملم بالشأن الجزائري، يقرأ التحولات الحالية بعين الماضي، متناسيا أن الجزائر اليوم ليست تلك الجزائر التي كان يتحدث إليها السفراء الفرنسيون من موقع التعالي، فكيف لعارف بالشؤون الجزائرية أن يضع الإسلاميين والعسكر والحكومة في خندق واحد حينما يتعلق الأمر بخيار لغوي؟ الواضح أن اختزال مشروع وطني لتحديث التعليم والانفتاح على العالم في نظرية مؤامرة هو دليل على أزمة في الإدراك الفرنسي أكثر مما هو توصيف للواقع الجزائري.

وكما سبق في ملفات أخرى، ما يقوله دريانكور ليس تحليلا دبلوماسيا بقدر ما هو صدى لقلق فرنسي متزايد من انحسار نفوذ لغوي وثقافي ظل لعقود يعامل كامتياز استعماري غير قابل للمساس، بينما الواقع يقول إن الإنجليزية بدأت تحتل مكانتها بدعم رسمي وفي عدة مجالات دون أخذ إذن من باريس أو وصايتها.