38serv

+ -

كثر حديث المواطنين حول عمليات الغش التي يتعمد التجار القيام بها، خصوصا عندما يتعلق بالمواد الاستهلاكية، نظرا لما يترتب عنه من مشاكل صحية. وبات معروفا أن التاجر الذي يتعمد الغش في تجارته، سواء في النوعية أو الوزن والكيل، كالأستاذ النفساني الذي يدرس شخصية المستهلك جيدا. ولأن العلاقة بين المستهلك والتاجر “شر” لا بد منه، فإن أساليب الغش ما انفك أصحابها يطورونها ويضيفون إليها خططا جديدة، نكشف بعضها في هذا الاستطلاع. يكفي القليل من التركيز والانتباه داخل مختلف الأسواق، الشرعية منها وغير الشرعية، حتى يكتشف المواطن نماذج متنوعة من ممارسات الغش في البضائع والسلع الموجهة للاستهلاك، فرغم ما يقال عن العيون الساهرة لحماية المستهلك، ممثلة في عدة أطراف كمصالح المراقبة والنظافة ومراقبة الغش وجمعيات الدفاع عن المستهلك وغيرها، فإن الغش يزداد “تطورا” من حين إلى آخر، ومن تقنية إلى أخرى. وقبل الخوض في هذه المسألة، لا بد من الإشارة إلى ما أجمع عليه المستجوَبون، وهو أن المستهلك حر في كل ما يريد شراءه، وليس من حق أي تاجر أن يفرض عليه أي شيء أو يفرض عليه كمية أكثر من التي يطلبها. وهنا يشير أحدهم إلى أن المستهلك أصبح في المفهوم المتداول لدى التاجر شخصا محكوما عليه بكثرة الاستهلاك، فيبيعه حتى ما لا يرغب فيه أحيانا.وبإمكان أي مواطن أن ينتبه إلى أبرز مظاهر الغش موجودة عند الجزارين، فعندما يزن قليلا من اللحم يجب على المستهلك أن يتأكد من أنه جديد. وهنا يلاحظ أن بعض الجزارين لهم أساليب عديدة في التحايل، إذ يعرضون اللحم الجديد في الواجهة ثم يجلبون للزبون ما يطلبه من الداخل، وبسرعة فائقة يزنون و “يقرطسون” دون أن ينتبه المشتري. وحدثنا بعضهم أن البعض الآخر يتظاهر بقطع ما ترغب فيه من لحم مثلا، وبسرعة تذهب يده إلى قطعٍ أخرى متناثرة، فيأخذ بعضها تكملة للوزن الذي يطلبه المستهلك. ومن حق المواطن أن يرفض ذلك ويطالب بإكمال الوزن بلحم من نفس النوع، وليس من حق الجزّار مخالفة رغبة الزبون.ومن منطلق عمل محدثنا كإطار بمديرية المنافسة والأسعار سابقا، يذكر ظاهرة أخرى استفحلت لدى الجزارين، وهي استعمال ورق لف غير مطابق للمادة التي يبيعها، ويقصد بذلك “الورق الخشن” في كل عملية وزن للحم. علما بأن هذا النوع من “الورق المقوى” مخالف لشروط هذا النشاط، لسبب بسيط هو أن سعر الكيلوغرام منه لا يتجاوز 50 دينارا في أحسن الأحوال، ولا يعقل أن يبيعه بسعر لحم الخروف 1200 دينار. ولا شك أن الجزار يضع دائما حوالي 150 غرام من الورق بكل كيلوغرام من اللحم، ومعناه أنه غش في 100 دينار على الأقل. ويستطرد محدثنا مستحضرا حالات الغش، كتمرير قطع من الشحم تحت اللحم، بحيث لا تظهر، وعندما يعود المستهلك إلى المنزل يكتشف بعد فوات الأوان أنه كان ضحية احتيال.والأدهى من كل هذا أن بعض الموّالين ومربي الماشية، إذا مرضت لهم شاة، وقصدوا البياطرة لمداواتها بأنواع من الحقن والأدوية، وأحسوا بأن هذه الحقن لم تأت بفائدة في العلاج، سارعوا بها إلى بعض الجزّارين ممن يطلبونها بقوة لأنها تباع بأبخس الأثمان، على أن يبيعها هؤلاء القصابين بنفس أسعار اللحم العادي بعد أن يذبحوها في مسالخ بعيدة عن أعين الرقابة والمتابعة الصحية، أو حتى في منازلهم، رغم تحذيرات البياطرة من ذبح الخرفان أو الشاة المعالَجة بواسطة الحقن، إلا بعد مدة أقلها شهر أو شهرين، لما فيها من مخاطر على صحة المستهلك، كظهور أمراض سرطانية جرّاء تناوله لهذا اللحم، وهذا أكثر من مجرد تحايل في الميزان، بل هو قتل للزبون الذي يعطينا المال فنعطيه الموت المحقق.وإذا كان هناك من التجار من يعملون بضمير واع، فإن الأغلبية يتفننون في سرقة الميزان. ومثلما يتعمد الجزار أو بائع السمك خطف اللحم أو السمك خطفا ثم يرميه على كفة الميزان، قبل أن يتأكد الزبون من مقدار الوزن ويراه بعينيه بالغرام والسعر، لأن ذلك من حقه القانوني الذي يستطيع به مقاضاة التاجر لتقصيره في واجبه، فهناك باعة للفواكه والخضر يتظاهرون بأنهم نسوا 50 غراما عندما يزنون بعلبة طماطم. وهناك أيضا من يضرب الميزان حتى تنزل الكفة.ونوع آخر من الغش المفضوح والمعروف لدى الجميع، بمن فيهم مصالح المراقبة، يتمثل في نزع كتلة الرصاص أسفل كفة الميزان. ونوع يضع قطعة معدنية تحت الكفة التي يزن بها البضاعة فيربح 50 أو 100 غرام في كل عملية وزن. وهناك أيضا من يضع آلة الوزن بعيدا عن الزبائن و “يلعب لعبته” كما يشاء. لكن القليل من الزبائن من يطالب بالوزن أمام عينيه حتى يتأكد من وضوح وشفافية العملية.ويتوصل الغشاشون في كل مرة إلى ابتكار التقنيات والحيل لتحقيق الربح على حساب الضمير وأخلاق المهنة. وقد قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم “من غشنا فليس منا”. وإذا كان هذا الصنف موجودا فإنه يوجد بصفة أكثر في الأسواق الشعبية، وبالأخص منها الفوضوية، فالكثير من المحلات التي يقال إنها و “جيدة” و “نظيفة” لا تخلو من نفس هذه الممارسات غير الشريفة وغير الأخلاقية، إذ يتم عرض البضاعة الممتازة مثلا على واجهة الصندوق، أي ما يصطلح عليه “وجه السوق”، وما دون ذلك في الأسفل. كما يضع كميات أمامه لترجيح كفة الميزان، والغريب أنهم لا يسمحون للزبائن بالحصول على البضاعة التي أعجبتهم، كما أنه من النادر أن يعرض بائع الفواكه مثلا سلعته كما هي، بل يجتهد في إخفاء الجهات الفاسدة منها، بحيث لا يظهر إلا الجانب الجيد.كما انتشرت نغمة “السلعة الرخيصة”، ومثال ذلك أن ينادي البائع بأعلى صوته الكيلو من البطاطا 35 دينارا، والحال أن كيلوغراما من البطاطا بسعر الجملة هذه الأيام ما بين 35 و36 دينارا، فيذهب ظن المستهلك أنه قام بتخفيض السعر، والحقيقة أنهم ينتزعون البطاطا مع ترابها الذي يأخذ نصف وزنها، أو يبيعون الخضروات والفواكه بأوراقها وأغصانها.وكشف لنا بعض المهتمين بعالم التجارة أن من مات ضمائرهم من التجار يضع الدجاج واللحوم البيضاء في الماء طوال الليل حتى يشرب لحمها من هذا الماء ويزداد وزنها، وقد يخفّض في سعر الكيلوغرام في الدجاج، فيظن الزبون بأنه رخيص فيقبل عليه. طبعا هو تحايل على الإنسان وليس على الخالق، لأن الله تعالى يعلم ما تخفي الصدور.وإمعانا في الغش، يعمد تجار البقول والتوابل إلى خلط المواد الاستهلاكية الكاسدة للمواد الأكثر رواجا، ولم يعد المواطن يتفاجأ بوجود الشعير في البن المرحي، وزيت الزيتون مخلوطا بالزيت النباتي، وعسل النحل بالسكر والقمح المسبوغ يقال عنه فريك، والشعير المطبوخ في الماء المغلي يقال إنه مرمز.كما نجد “المرقاز” الذي لا نعرف أصله ولا فصله. ولكن عيون “الخبر” أكدت أن من الجزارين من يحضِّرون “المرقاز” بخليط اللحم المتنوع من الأمعاء والزلوف البقري ولحم الماعز والنعجة صغيرة السن. لكن السؤال أمام هذه الممارسات هو: هل هناك فعلا مصالح تحرص على مراقبة الأسواق ومحاربة مختلف عمليات الغش؟يحدث هذا في الأسواق الشعبية التي يقال إنها متحضرة، وأمام أعين لجان المراقبة، لكن ما يحدث في الأسواق الأسبوعية أخطر، ويتطلب منا جميعا دون استثناء الوقوف من أجل بعث الضمير وإحيائه في التاجر، لأنه من يقوم بالمراوغة والخداع والتحايل باسم الربح السريع الذي هو في الحقيقة ابتزاز واستهتار بأرواح الناس.ولا نحيل تجارنا على ما يقوله الإسلام في التاجر الصادق ولا في تعاليم التجارة ولا في مراقبة الله، ولكن نقول لهم اعتبروا من الدول الغربية التي نصفها بالكافرة لكنها في قمة الأخلاق في المعاملات التجارية، وبعدها يعودون إلى ما تقوله القوانين والنظم التجارية، وليسأل التاجر نفسه هل يقبل أن يبيع زميلُه التاجر لأحد أبنائه سلعة مغشوشة تجلب المرض والموت؟ أعتقد أن الجواب متروك لتجارنا على اختلاف ما يتاجرون به، وفي جوابهم يجدون ما يريده الزبون، “لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه”.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: