+ -

يسألني كثير من الأصدقاء، مرارا وتكرار، عن قراءاتي الآنية، فأُحدثهم عن طه حسين والعقاد وميخاييل نعيمة أو يوسف إدريس أو نجيب محفوظ أو سهيل إدريس، كقراءات تتكرر بالنسبة إلي، وتعاود الظهور لمقاومة فعل الاختفاء والنسيان، فيبدي هؤلاء استغرابا كبيرا لما تأتيهم الإجابة على هذا الشكل من كاتب يُعرف عنه ولعه الشديد بالرواية المترجمة، فكثيرا ما أخذهم وسافر بهم بلا تأشيرات إلى روايات البلدان البعيدة، إلى غاية أمريكا اللاتينية أو البلدان الإسكندينافية.يستغربون مني ذلك الجواب، وكأنه لم يبق شيء يُقرأ من سيرة “الأيام” أو رواية “الحرام” و”مذكرات الأرقش” ورواية “الحي اللاتيني”، فأشعر حينها أن فعل القراءة عندنا أصبح يقوم على القطيعة والنسيان والتجاوز، ولم يعد يلتفت إلى الكتب المؤسسة والروايات الرائدة، ولو بغية الإبقاء على ناصية اللغة العربية والعودة إلى مصباتها الجمالية، فهل يوجد أسلوب قصصي ألذ من أسلوب طه حسين؟ شخصيا أعود لكتاب “الأيام” ولكثير من مؤلفات طه حسين والعقاد ويوسف إدريس وغيرهم، كلما سنحت لي فرصة العودة، إذ أجد فيها ما لا أجده في كثير من الكتب. أعود إليها ليس فقط لأنها “البئر الأولى” التي منها وردتُ وشربت الماء صفوا، ولكن للبقاء على صلة ببدايات تكوين الأسئلة المؤرقة في مسار تكويني الأدبي، حيث تتشكل لدي لحظة واعية يظهر من خلالها التطور الحاصل في تفكيري، فلحظة البداية وحدها قادرة على إعادة دفع السؤال في حياتنا من جديد نحو آفاق أخرى. أعود لكل هؤلاء الأدباء، رغم علمي المسبق أن كثيرا من الكتاب استطاعوا تجاوز كتاب “الأيام” ورواية “الحي اللاتيني” وغيرها من الروايات العربية المؤسسة لهذا الفن، إذ تبدو رواية “البحث عن وليد مسعود” لجبرا إبراهيم جبرا مثلا، أحسن بكثير من أعمال نجيب محفوظ، كما أن رواية “دروز بلغراد” لربيع جابر، رواية استثنائية شكلت لحظة فارقة من حيث الشكل والموضوع مقارنة بأجمل رواية عربية كُتبت في الخمسينيات أو ما بعدها، لكن هذا لا يعني أن الأدب خاضع لمنطق التجاوز حتى من حيث القراءة. التجاوز قد يشغل المبدع سواء أكان روائيا أم قاصا أم كاتبا مسرحيا، في لحظة الكتابة الإبداعية، لكن في لحظة القراءة التي ترافقه كلحظة دائمة، تبدو لي العودة إلى النصوص المؤسسة أمرا ضروريا وحتميا للقارئ والكاتب على حد سواء. القارئ مثل الكاتب يجب أن يعود للنصوص الأولى حتى لا ينفصل عن روح النص الجديد وتأثيراته. أقول هذا لأنني أعتقد أن القارئ والكاتب لا يتواصلان فقط على مستوى النص الجديد، بل يجب أن يتواصلا على مستوى آخر، هو مستوى التأثيرات الأدبية، من منطلق أن الكاتب لا يكتب إلا من قراءة سابقة لها فاعلية وتأثير عليه. وهنا كثيرا ما نجد أن النقاد يستحضرون تأثيرات أدبية سابقة وهم يقرأون لهذا الكاتب أو ذاك. ومن هنا روج النقاد لمقولة دستويفسكي الشهيرة “لقد خرجنا جميعا من معطف غوغول”، في إشارة منه لرواية “المعطف” التي كتبها غوغول سنة 1843.كتبت مرة أنني تركت روايات ارنست همنغواي جانبا بسبب اكتشافي لأعمال غارسيا ماركيز، لكن لا يعني أن رواية “ولا تزال الشمس تشرق” لهمنغواي لم تعد من صلب اهتماماتي، والذي قصدته آنذاك، هو أن أعمال غارسيا ماركيز قادتني وحملتني إلى شكل روائي جديد وأسلوب أدبي يختلف عن أدب همنغواي، فقلت في نفسي وأنا أقرأ رواية “مائة عام من العزلة”، “هذه هي الطريقة التي سأكتب بها”، وبالفعل كتبت وأنا في سن العشرين رواية من ثلاثة كراريس بنفس أسلوب الروائي الكولومبي.الكف عن قراءة أعمال الأدباء المؤسسين وإعادة قراءتها من جديد جُحود لم يحدث معي، لأن أعمال طه حسين والعقاد وسهيل إدريس ويوسف إدريس، أعود إليها مرارا، ليس بدافع من شعور تحركه “النوستالجيا”، بل اعتقادا مني أن الأدب لا يعني القطيعة، بقدر ما يعني التراكم والعودة المستمرة للحظات التأسيس، أو لحظة الخروج من معطف هذا الكاتب أو ذاك.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات