38serv

+ -

 انتقد صديقي الروائي أمين الزاوي رواية جيل التسعينيات، وقال عنها إنها رواية ”المثقف النرجسي الذي يظهر في صورة نبي يعتقد أن لا خلاص يأتي إلا منه”. واعتبر أن ذات الرواية انفصلت عن المجتمع انفصالا يكاد يكون مطلقا، ولم تتناول ”شخصية الفلاح أو العامل البسيط”. شخصيا أتّفق مع الزاوي في كون رواية التسعينيات ركّزت على شخصية المثقف دون غيرها، ولم تقترب من المجتمع وعامة الناس في مآسيهم، فجاءت على شكل رواية الذات الجريحة، في مقابل الرواية السبعينية التي اختلفت عنها اختلافا جذريا.أتفق مع الزاوي في كل هذا، وقد ناقشته في الموضوع خلال العدد الأول من ”موعد مع الرواية” بقصر الثقافة في مستهل هذا الأسبوع. وشرحت من وجهة نظري أسباب تركيز رواية التسعينيات على شخصية المثقف دون غيرها من الشخصيات. قلت للزاوي، إن الظروف القاسية التي كانت تعيشها البلاد آنذاك، حتمت على الكثير من الكتاب والصحفيين التوجه للعيش والاختباء في أماكن أمنية ضمانا لسلامتهم الجسدية، بعد أن تهاطلت عليهم رسائل التهديد والقتل. فبمجرد أن يكتب أحدنا مقالا عن أي فكرة تنويرية وحداثية تناقض تصورات أنصار التطرف، مثلما حدث معي في أكتوبر 1995، لما أعددت ملفا عنوانه ”دفاعا عن نجيب محفوظ” بعد أن تعرض لمحاولة اغتيال من قبل متشدد إسلامي، حتى تتحول حياته إلى جحيم لا يطاق، فيصبح يعيش في جو من الخوف.هذه الحياة التي اخترناها مكرهين ومجبرين، (فهل يختار طوعا من كان شابا في مقتبل العمر العيش في غرفة بفندق محروس؟) فصلتنا تماما عن عامة، وأبعدتنا عن هموم الناس، فجاءت كتاباتنا ذاتية، منحصرة على الفرد/الذات/المثقف، وهو يمارس فعل المقاومة والدفاع عن أفكاره الحداثية ضد دعاة التطرف والدولة الدينية التي كنا نرفضها رفضا قاطعا وعن قناعة.هكذا غاب المجتمع عن الرواية التسعينية وحضر الفرد، بحكم أن كل روائي صادق مع نفسه فيما يكتبه، لا يقترب إلا من العوالم التي عايشها وجرّبها واحتك بها. قد يقول قائل إن الرواية ليست معايشة فقط، بل هي تخيّل كذلك، واكتشاف لعوالم خارجة عن نطاق الذات، وهذا صحيح. بيد أن الحالة الاستثنائية التي كنا نعيشها، وحجم الهول الذي كان يحيط بنا ويهدد حياتنا، جعلنا نختار ذواتنا كموضوع لأعمالنا الروائية. وبرز هذا الحضور بشكل مركزي، أي كهاجس تدور حوله المواضيع الأخرى، والشخصيات التي تخيّلناها ورسمناها، (وهذا ما جعل الزاوي يتحدث عن ”النرجسية وتخليص العالم”)، بمعنى أن كل رواية تسعينية، شكلت فيها الذات محورا تدور حوله باقي المحاور، فالذات هي التي ترى وتحكي وتتأوه وتقاوم. وهذه الذات كانت ذاتا مثقفة تعبّر عن رؤية للعالم، وتعكس تصورا معينا للحياة، من منطلق أن المعركة مع المتطرفين كانت على أشدها، وكان يجب تقديم تصور فكري مختلف ومناهض لتصورات المتطرفين التي انتشرت بين أوساط عامة الناس. لهذا غلب الطرح الفلسفي على كثير من الأعمال، وجاء ذلك على حساب الطرح الفني الذي يعتبر، حسب اعتقادي، أساس أي عمل روائي. لكن من يكتب تحت وابل التطرف والقتل والدمار وطغيان فكرة الموت، لا وقت لديه للتفكير في ”المثالية الفنية” وصياغة معادلات موضوعية وتقديم رؤية فنية وهو يكتب. أحيانا أقول إن الروايات القليلة التي ظهرت خلال تلك المرحلة، وهي لا تتجاوز الخمس روايات، لم تؤد وظيفة جمالية كبرى بالشكل الذي كان يجب لإرضاء النقاد (وهل أدّت الرواية السبعينية هذا الدور بالشكل اللازم؟) لكنها حافظت على وجود الرواية في الحقل الأدبي، بعد أن حام الموت حول الكتّاب وسكنهم الخوف وركبهم الهلع، الأمر الذي أدى إلى صمت الكثير منهم وعزوفهم عن تحمّل مسؤولياتهم كمثقفين، لا أريد أن أستعمل تعبير ”الخيانة” في هذه الحالة، وأكتفي بالقول أن كثير من الكتّاب والروائيين تراجعوا عن أداء الدور الحقيقي للمثقف في حالة الأزمة. والغريب أن هؤلاء الكتاب، بدل أن يكتبوا ويقاوموا معنا، راحوا يسعون لتحطيم ما كتبناه، فتحدثوا عن ”الأدب الاستعجالي”، محاولة منهم للحط من قيمة الرواية التسعينية، فكان جزائنا العقاب ومواجهة سيل من الأحكام القاسية.وما أريد أن أطرحه للنقاش الآن، (وقد يكون ذلك على وسائط التواصل الاجتماعي) هو هل تخلصت الرواية الجزائرية اليوم، على ثيمة الذات/ المثقفة، ونظرت للمجتمع مثلما يريد أمين الزاوي؟ أم أن الرواية التسعينية أثّرت على الكتابة الروائية بشكل لا يقبل الفك، فجعلتها حبيسة الذات؟

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات