الانتخابات الرئاسية في تركية... النتائج والمآلات

+ -

يعكس الحدث الانتخابي الذي عاشته تركيا وشد أنظار العالم برمته، نظرا لشدة المنافسة التي طبعت الانتخابات الرئاسية في تركيا، وسط تجاذبات سياسية لم تكن في منأى عن اللعبة الدولية، فلم تخف الولايات المتحدة الأمريكية امتعاضها من التأثير الإقليمي لتركيا، والتي يزعجها كثيرا صعود نجم "رجب طيب أردوغان" في السنوات الأخيرة في العالمين العربي والإسلامي، وكذا التقارب بين أنقرة وموسكو وتقاطع السياسة المشتركة للبلدين في التوافق في عديد الملفات الهامة في منطقة الشرق الأوسط؛ ولعل أهمها الملف السوري، الأمر الذي زاد من أرق البيت الأبيض وفسرت توجهات السياسة الخارجية الأمريكية القلقة من توافق وجهات نظر رئيسي البلدين بوتين وأردوغان، والتي باتت تحد من النفوذ الأمريكي في المنطقة.

وبالرجوع إلى الحدث الأهم وهو الانتخابات الرئاسية في تركيا، التي عرفت إجراء دورين أين بات الحسم لصالح أردوغان سيد الموقف، في مقابل انتكاس المعارضة التركية والتي تشكلت على قاعدة من الخلفية الموالية لأجندات غربية، واتخذت من تعزيز القومية التركية شعارا لها لاستمالة الشارع التركي، وقد استثمرت في التراجع الحاد للاقتصاد التركي وهبوط في قيمة الليرة التركية لاسيما بعد محاولة الانقلاب الفاشل التي قادتها أطراف محسوبة على جماعة فتح الله غولن المدعومة أمريكيا ليلة 16 جويلية 2016، فيما برزت يد الولايات المتحدة بوضوح حتى في المشهد الانتخابي، ولم يخف أردوغان في مقابلته مع "سي إن إن" (CNN)  الأمريكية، تذكيره بتنديده بتصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن عندما وصفه بـ "المستبد"، وقال "هل يمكن لشخص يذهب إلى الجولة الثانية وليس الأولى أن يكون دكتاتورا"، وفي هذا إشارة واضحة للمخاوف الأمريكية من استمراره في الحكم، في ظل الدعم الذي يلقاه من التيار الديني المحافظ في تركيا، على اعتبار التحالفات السياسية التي شهدتها تركيا امتدادا لتحالف "الأمة" المعارض في سياق ما يسمى الطاولة السداسية التي أسست في شهر فيفري من العام 2022، وتوافقت على ممثلها السياسي الذي سيواجه أردوغان، ممثلا في شخص كمال كيليتشدار أوغلو تلك القوى التي استثمرت في وزنها السياسي بعد كسبها للرهان الانتخابي في أكبر بلديتين هامتين في تركيا إسطنبول وأنقرة على التوالي، فيما شكلت الأحزاب الستة الفاعلة في صفوف المعارضة جبهة صمود في مواجهة أردوغان، ونعتقد أن أهم الأوراق التي لعبتها ورقة القومية على اعتبار انتقادها لسياسة أردوغان في دمج اللاجئين والنازحين من مناطق النزاع في الجوار الإقليمي في سوريا والعراق، فيما كل المؤشرات ومنذ بداية الحملة الانتخابية كانت تؤشر إلى فوز حتمي لأردوغان، فيما نفسر أن مواقف كتلة المعارضة السداسية كانت تتماهى مع توجهات حزب الشعب الجمهوري للظفر بمناصب نيابية واقتسام مغانم سياسية في المجالس المحلية، فيما نرى أن المغامرة الانتخابية التي خاضتها المعارضة بإقحامها "كيليتشدار" وبالنظر إلى سن الرجل المتقدم هو مناورة استباقية لما بعد العهدة الموالية لأردوغان، والذي هو الآخر تشير المعطيات إلى أنه لن يعيد الترشح لعهدة قادمة في غضون العام 2026، وباتت الأوضاع الاقتصادية ورقة أخرى استثمرت فيها المعارضة لانتقاد سياسات أردوغان الاقتصادية التي ساهمت في تراجع نفوذ الطبقة الأوليجارشية فيها، وكذا التقارب مع قوى دولية صاعدة في الخارطة الدولية على غرار روسيا، الصين، وإيران، فيما شكلت إعادة التموضع الإقليمي لدول الخليج في تقارب سياساتها مع تركيا وإيران، نقطة ارتكاز أسس عليها أردوغان دعما داخليا بعد أن تراجع النفوذ التركي والتأثير الصاعد بعد أحداث ليلة الانقلاب الفاشلة.

عودة السياسة الخارجية التركية في ظل التحالفات الجديدة إقليميا ساهمت في وضع النفوذ الأمريكي وأذرعه المالية والسياسية في زاوية ضيقة، فعلى الرغم من مناورات واشنطن بنسف التقارب السعودي الإيراني وكذا عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، ذلك ما سيعزز من الحشد العسكري بعد وضع خارطة آمنة للاستقرار الوضع السياسي والأمني في سوريا، فيما نرى أن ذلك سيضع الجيش الروسي في رواق مريح في مواجهة التحالف الغربي في أوكرانيا بعد نقل قوات روسية عاملة في سوريا وترسانة عسكرية هامة كانت تقوم بمهام عسكرية في مواجهة المتطرفين والمعارضين في سوريا، إلى أرض المواجهة العسكرية في أوكرانيا .

الانتخابات الرئاسية التركية في جولتها الثانية حسمت نتائج الانتخابات بشقيها الرئاسي والتشريعي، وأبرزت بشكل واضح انقسام الشارع التركي في سابقة من نوعها بعد عقدين من الزمن. كما كشفت حجم التواطؤ الغربي المفضوح للإطاحة بأردوغان، ومن ثمة تغيير نظام الحكم في تركيا الذي حد من النفوذ الغربي التقليدي. كما أبان الأتراك عن وعيهم ونضجهم الديمقراطي، وعبّروا من خلال إرادتهم عن انخراطهم في مسار تحصين الجبهتين الداخلية والخارجية لتركيا، وساهمت الممارسة السياسية لحزب العدالة والتنمية في إعداد جيل مثقف سياسيا يعكس مدى النضج الديمقراطي الذي وصل إليه، الذي جاء نتيجة تراكمات وتدريب وممارسة فعلية للمسؤوليات السياسية، كما ساهمت القومية القوية والمتأصلة في الشخصية التركية، التي ترفض التبعية للآخر وتدافع عن جوهر هويتها الأمر الذي مهد الطريق لفوز محقق لأردوغان وحزبه، حيث تصاعد هذا التوجه بشكل واضح خلال سنوات حكمه، لدى جميع الاتجاهات السياسية في البلاد، بالإضافة إلى إحياء التوجه الديني المحافظ، والذي لا ينفصل بأي حال من الأحوال عن التوجه الأول.

فيما شكلت السياسة الاستقلالية عن الغرب التي انتهجها أردوغان في السنوات الأخيرة، خلفية لتغذية مؤامرات الغرب في توجيه الناخب التركي نحو دعم المعارضة التي انكشفت ولاءاتها لصالح النفوذ الغربي، فيما سجلت مناورات للتشكيك في نزاهة العملية الانتخابية في تركيا، وحشد وسائل إعلام دولية مؤثرة معروفة بولائها لأجندات الغرب في المنطقة. فيما أكدت منظمات دولية عديدة غربية على مصداقيتها، في ظل تواطؤ غربي في عمليات التزوير في الانتخابات في بلدان أخرى لصالح حلفائها، ما يفسر الخلفية الاستعمارية التي توظف شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان الواهية، للتلاعب بمصالحها واستقرارها.

 فيما أنه من الثابت أنه من مصلحة الفلسطينيين بقاء أردوغان وحزبه في الحكم، انطلاقاً من استقلالية القرار السياسي التركي الخارجي، وذلك بوجود دولة قوية في الشرق الأوسط مستقلة عن النفوذ الغربي، تعمل على ضمان التوازنات في الصراع التقليدي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وفي ظل عداء الرأي العام التركي بغالبيته لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وتواجه سياسات الغرب الداعمة للاحتلال في الأراضي الفلسطينية.

وبالنظر إلى الأهمية الإستراتيجية لتركيا بالنسبة إلى روسيا فالمستوى الرفيع من العلاقات بين أنقرة وموسكو له من الأهمية بمكان، لاسيما و"أن تركيا لها مكانتها الهامة في حلف شمال الأطلسي، ما جعلها تستثمر في ورقة انضمام فنلندا والسويد إلى منظمة الحلف الأطلسي، ما يعزز من المقاربة الروسية بالإبقاء على متانة العلاقات مع الشركاء الإقليميين في الشرق الأوسط وعلى رأسهم رجب طيب أردوغان في إشارة إلى التناسق والانسجام بين موسكو وأنقرة في أهم القضايا والتطورات التي تشهدها المنطقة، ولعل فوز أردوغان في هاته الانتخابات حتما سيخدم المصالح الروسية في مواجهة النفوذ الغربي في الشرق الأوسط، ويعد أردوغان في الوقت الراهن الرجل الأقرب إلى المحافظة على موقع روسيا في خارطة النفوذ الشرق أوسطية، خاصة في ظل التقارب الإيراني السعودي وقوة العلاقات بين أنقرة وطهران المناهضة لسياسات واشنطن في المنطقة.

فيما تشكل المواقع المتقدمة للسياسة الخارجية التركية دوليا إلى مكانتها في الخارطة الاقتصادية، لاسيما في مسألة العقوبات الاقتصادية التي يفرضها الغرب على روسيا، في النسق الهام الذي تشكله العلاقات الاقتصادية التركية الروسية بشكلها المتشعب والهام، مما دفع بتركيا إلى العزوف عن الانخراط في صياغة حزمة العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو، لذا فإن بقاء أردوغان واستمراره في حكم تركيا حتما في ظل عدم رضوخ الأخيرة إلى إملاءات الغرب ومخططات المنظومة التقليدية التي باتت تتآكل أركانها في ظل صعود حاد في القوى الفاعلة الجديدة وعلى رأسها روسيا، الصين وإيران والهند والبرازيل، فيما سيشكل استكمال بناء التكتل الاقتصادي الدولي لمجموعة البريكس فاعلا اقتصاديا قويا سيعزز من موقع تركيا بالنسبة لأعضاء المجموعة.