أقلام الخبر

مشروع غرس مليون شجرة: إرث مستدام للأجيال القادمة

يتخطى مشروع غرس مليون شجرة كونه مجرد مبادرة بيئية عابرة، ليتحول إلى استثمار استراتيجي متعدد الأوجه.

  • 627
  • 4:22 دقيقة

في زمن يواجه فيه العالم تحديات بيئية مصيرية، من تغير المناخ إلى التصحر وفقدان التنوع البيولوجي، يبرز حديث نبوي شريف كمنارة تضيء طريق العمل الجماعي المستدام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فَلْيَغْرِسْهَا". هذا الحديث لا يدعو فقط إلى الاستمرار في الخير حتى في أحلك الظروف، بل يؤسس لثقافة متكاملة من الأمل والإيثار والاستدامة. اليوم، تتجسد هذه الرسالة النبوية العميقة في مبادرة وطنية طموحة تقودها جمعية "الجزائر الخضراء"، بالتعاون مع وزارة الفلاحة، بهدف غرس مليون شجرة في يوم واحد، بتاريخ 25 أكتوبر الجاري.

دلالة الحديث: صدقة جارية وإرث للأجيال القادمة

معنى الحديث يتجاوز بكثير مجرد فعل الغرس؛ إنه يمثل فلسفة حياة. فغرس الشتلة مع العلم بقرب النهاية هو أسمى درجات الإيثار وترك الأثر الطيب. يُفسر هذا كدعوة للعمل الصالح المستمر الذي لا ينتظر منه صاحبه منفعة شخصية مباشرة، وهو ما يُعرف في الثقافة الإسلامية بمفهوم "الصدقة الجارية". 

السؤال: ما فائدة أن يغرسها وهو في آخر لحظاته؟ الجواب يكمن في أن هذا الغرس يرمز إلى بناء إرثٍ مستدام يخدم الصالح العام. إنه فعل يتجاوز الفرد ليفيد الجماعة، ويضمن استمرارية الحياة والعطاء حتى وإن فني الإنسان، تاركاً شجرته ظلاً ومأكلاً ومصدر أكسجين لمن يأتون بعده.

الأبعاد البيئية: استعادة التوازن الإيكولوجي ومكافحة التصحر

يتجاوز هذا الحديث كونه مجرد نداء، ليصبح دليلاً قاطعاً على الأهمية القصوى للحفاظ على البيئة، لا سيما في سياق بلد كالجزائر الذي يقف على خط المواجهة المباشر مع ظاهرة التصحر والآثار المتفاقمة للتغيرات المناخية. فعملية غرس الأشجار لا تقتصر أبداً على كونها مجرد عمل تجميلي يهدف إلى تزيين المناظر الطبيعية، بل هي في جوهرها تمثل تدخلاً حيوياً وإستراتيجياً يرمي إلى استعادة وإحياء النظم الإيكولوجية المتضررة.

في هذا الإطار، تلعب الأشجار دوراً محورياً في مكافحة التصحر وتثبيت التربة؛ حيث تعمل شبكة جذورها القوية كدعامات طبيعية ترسخ التربة وتمنع انجرافها وتعرّيها بفعل الرياح القوية والأمطار، الأمر الذي يحافظ على خصوبة الأراضي الزراعية ويشكل خط دفاع بيولوجي فعال ضد زحف الرمال المدمر. هذا الجهد يعتبر استكمالاً وتجديداً للجهود التاريخية الطموحة التي جسدها مشروع "السد الأخضر" الرائد. 

علاوة على ذلك، تُعد الأشجار عنصراً أساسياً في تعزيز التنوع البيولوجي، إذ توفر موائل طبيعية وغذاءً ضرورياً للطيور والحشرات ومختلف الكائنات الحية الأخرى، ما يساهم بشكل مباشر في استعادة التوازن البيولوجي الذي تعرض لتدهور كبير بفعل عوامل التوسع العمراني السريع وموجات الجفاف المتكررة.

كما أن للغطاء النباتي وظائف بيئية لا غنى عنها تتعلق بتحسين جودة الهواء والمناخ المحلي؛ فالأشجار تقوم بامتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون، وتطلق في المقابل الأكسجين، كما تعمل كمرشحات طبيعية فعالة تمتص الغبار والملوثات الضارة. وهي أيضاً تساهم في تلطيف الجو بشكل ملحوظ وتخفيض درجات الحرارة في المناطق الحضرية، مما يقلل من حدة تأثير "الجزر الحرارية الحضرية" المعروفة. وأخيراً، لا يغيب الدور الهام للغابات في دعم وتنظيم الدورة المائية عبر عملية النتح (تبخر الماء من الأوراق)، التي تزيد من نسبة رطوبة الهواء، مما يساهم بشكل إيجابي في دعم فرص هطول الأمطار وتحسين الموارد المائية.

أبعاد اقتصادية واجتماعية تتجاوز مجرد التشجير

يتخطى مشروع غرس مليون شجرة كونه مجرد مبادرة بيئية عابرة، ليتحول إلى استثمار استراتيجي متعدد الأوجه يحمل في طياته أبعاداً اقتصادية واجتماعية عميقة.

على الصعيد الاقتصادي، يُعد هذا المشروع رافعة للتنمية المستدامة؛ فالأشجار المثمرة، على وجه الخصوص، تساهم بشكل مباشر في تعزيز الأمن الغذائي، وتوفر في الوقت ذاته مصدراً مستداماً للدخل بالنسبة للمجتمعات المحلية، مما يدعم الاقتصاد الريفي. بالإضافة إلى ذلك، تفتح المساحات الخضراء واسعة النطاق آفاقاً واعدة للسياحة البيئية، وتعمل على رفع القيمة السوقية للعقارات في المناطق المحيطة بها. ومن الفوائد الاقتصادية غير المباشرة والهامة أيضاً، تقليل تكاليف استهلاك الطاقة اللازمة لأغراض التبريد خلال أشهر الصيف، وذلك بفضل الظل الطبيعي والفعال الذي توفره الأشجار.

أما من الناحية الاجتماعية، فإن حملات الغرس الجماعية تمثل مناسبة مثالية لتعزيز اللحمة الوطنية والاجتماعية وغرس روح المواطنة الفاعلة. هذه الحملات تجمع تحت مظلتها شرائح المجتمع المختلفة، من الشباب والكبار، مروراً بالمؤسسات الرسمية وصولاً إلى جمعيات المجتمع المدني، متحدة حول هدف نبيل ومشترك. يساهم هذا التفاعل في غرس حس المسؤولية تجاه البيئة والوطن في نفوس المشاركين، وخاصة فئة الشباب، مما يعزز انخراطهم الإيجابي في القضايا الوطنية.

أخيراً، يحمل المشروع فوائد صحية جمة؛ فقد أثبتت العديد من الدراسات العلمية أن التواجد المنتظم في المساحات الخضراء والحدائق يحسن بشكل كبير من الصحة النفسية والجسدية للسكان، حيث تساعد هذه البيئات الطبيعية على خفض مستويات التوتر والقلق، مما يعزز نمط حياة صحي ومتوازن.

مبادرة "الجزائر الخضراء": من الغرس إلى الرعاية

تحت شعار "خضراء بإذن الله" و "نقدرولها"، لا تهدف الحملة التي تقودها جمعية "الجزائر الخضراء" بالشراكة مع وزارة الفلاحة وهيئات رسمية ومؤسسات أخرى، إلى مجرد تحقيق رقم قياسي في الغرس. الهدف الأسمى هو ترسيخ ثقافة بيئية مستدامة. وهنا يكمن التحدي الحقيقي والنجاح المستقبلي للمبادرة: الانتقال من مرحلة الغرس إلى مرحلة الرعاية والمتابعة. يجب ضمان سقي الشتلات وحمايتها في سنواتها الأولى لضمان نموها. لذا، فإن انخراط المجتمع المحلي في تبني هذه الأشجار ورعايتها هو مفتاح نجاح المشروع على المدى الطويل. إن اختيار أنواع الأشجار المحلية المتأقلمة مع المناخ الجزائري، مثل الصنوبر الحلبي والبلوط والخروب والزيتون، يزيد من فرص نجاح الحملة ويضمن استدامتها.

دعوة لغرس الأمل والمستقبل

إن غرس شجرة اليوم هو استثمار مباشر في هواء أنقى، ومدن أصح، ونظم بيئية متوازنة، واقتصاد أكثر تنوعاً. وكما يذكرنا الحديث النبوي الشريف، فإن العمل الصالح لا يتوقف عند حدود المنفعة الشخصية أو الآنية، بل يمتد ليبني مستقبلاً أفضل للجميع.

هذه المبادرة هي فرصتنا جميعاً لنكون جزءاً من هذا الإرث الأخضر. فلنجعل معاً جزائرنا أكثر اخضراراً وازدهاراً، بإذن الله.

* كريم ومان - المدير العام السابق للوكالة الوطنية للنفايات وخبير في البيئة والاقتصاد الدائري.