+ -

 كان يستقبلني بالأحضان وبوجه لا تغادره الابتسامة كلما التقينا في إطار مهني. فيلحّ في السؤال عن حالي وأحوال أسرتي وكأنه يعرفني منذ نعومة أظفاري. لقد غادر الكهولة منذ سنوات قلائل بعد أن هام على وجهه في العديد من عواصم العالم. فاشتغل في العديد من المؤسسات الصحفية في المهجر. وتقلد مسؤوليات في بعضها. فاتحني ذات مرة بسؤال مباغت: لماذا يقسو الصحافيون الجزائريون على بلدهم في نقدهم؟ وأوضح سؤاله بالقول إنه تعامل مع صحافيين جزائريين طيلة مشواره المهني، وكانوا يكتبون بشكل ممتاز لكن بقسوة على بلدهم ويستشيطون غضبا إذا نقدها غيرهم! مازحته بالقول إن الجزائريين ورثة المثل الإقطاعي البغيض الذي يُقول على لسان المرأة “أريد أن أُرْزَق رجلا يضربني ويضرب الغير دفاعا عني”. بالطبع، يصعب تطبيق هذا المثل اليوم في الجزائر لأن القانون يعاقب من يجرؤ على ذلك، لكن الجزائري استبدل المرأة ببلده في هذا المثال وطبقه في مجال الصحافة.لعل القارئ الكريم يدرك أن سائلي يقصد القسوة على النظام السياسي وإدارة الشأن العام وليس البلد. فملاحظته الدقيقة وعِشْرَة الصحافيين الجزائريين دفعاه إلى طرح السؤال المذكور. لذا تتطلب الإجابة عنه قدرا من حصافة الرأي.لقد ظلت الصحافة لعقود تجتر الخطاب الرسمي وهي خانعة للأوامر التي تصلها إلى قاعة التحرير، فتنفذها في إطار “وحدة التصور والعمل” التي فرضها الحزب الواحد. وانتقل الخنوع إلى مداهنة ثم تملق المسؤولين في ذاك الزمان. فبات اتّهام صحافي بالتملق سُبَّة حتى إن ادّعى البعض زورا أنهم يتشرفون بممارسته. لذا ألحّت الحاجة للتخلص منه، فساعدت الأوضاع التي خلفتها أحداث أكتوبر 1988 على ذلك. وقد تطرف البعض في تبرئة أنفسهم من هذه التهمة. فظلت ملامح القارئ الجزائري ومزاجه تلاحق الصحافي الجزائري حتى وهو يكتب لصحيفة أجنبية. وقد أدرك أن هذا القارئ يميل إلى من يرفع صوته، بل يفضل من يصرخ باعتبار أن الحق يكون دائما بجانب من يعلو صوته أكثر. فالكتابة الهادئة والمتزنة لا تتناغم في اعتقاده مع مزاج القارئ الجزائري الذي يعتبرها ضعفا أو خوفا. وربما ما يزال الصحافي الجزائري يرى نفسه في صورة المناضل السياسي التي أُلصقت به في الماضي، فيعكسها في كتاباته سواء عن قصد أو دونه. وقد يرجع نقده القاسي إلى شعوره بالخيبة التي تعود إلى إيمانه بقوة وسائل الإعلام وجبروتها في التأثير على الرأي العام، وتوجيه اختياره في الانتخابات، وحتى في تقرير مصير الحكومات ورؤساء دول. لقد قرأ أو سمع بالرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون الذي اضطرّته الصحف الأمريكية، الواشنطن بوست والتايم ونيويروك تايمز، إلى تقديم استقالته من الرئاسة في 1974 بعد الفضيحة التي عرفت لاحقا باسم “واترغيت”. لكن هذا الإيمان خبا بعد أن أدرك أن لا أحد يخشى وسائل الإعلام الجزائرية لتأثيرها المحدود جدا. حقيقة لا يعتقد عاقل أن هناك صحافيا جزائريا واحدا فقد عقله إلى درجة الاعتقاد أن صحيفته تملك من التأثير والسطوة ما تملكه الصحف الأمريكية المذكورة أعلاه. لكن هذا لم يمنعه من التطلع إلى أن تصحح الأمور، بهذا القدر أو ذاك، على الأقل، بعد أن يميط اللثام عن بعض الفضائح المرتبطة بالفساد والرشوة والنهب وضرب القانون عرض الحائط. لكن لا شيء من هذا القبيل يحدث. ولم يلق هذا الصحافي سوى التجاهل وعدم الاكتراث بالقضايا الخطيرة التي يثيرها. وهذا يزيد في غيظه فيرفع صوته أكثر ويغالي في نقده. ولا أعتقد أن دعوته لحضور محاضرة حول أخلاقيات الإعلام ستخفف من قسوة نقده. فما يخففها فعلا هو جهاز العدالة المنصف، سواء للفصل في القضايا التي يطرحها إن كان على حق، أو محاكمته بتهمة القذف أو السَّبّ إن كان مغرضا في طرحه.رغم أهمية العناصر المقدمة أعلاه للإجابة عن السؤال المطروح آنفا، فإنها لا تمنعني من الميل إلى عامل آخر هو الحنين. وهل يعاني الصحافيون الجزائريون من الحنين؟ وما علاقة الحنين بنقدهم القاسي على بلدهم؟ ألا يشجع الحنين على اللّين؟إن الحنين حسرة على زمن مضى أو مكان نأى أو حدثٍ انقضى. ألم ير الكاتب الكندي نيل بسونداث أن الحنين يمتلكنا عندما يعجز الحاضر عن الوفاء بوعد الماضي؟ فقسوة النقد دلالة أيضا على شِدّة الحنين.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات