+ -

 إن العلم البشري يتطور، هذه حقيقة لا يخالف فيها أحد، ومعنى تطوره أنه يتراكم ويتجدد، فحتى يُتوصل إلى اكتشافات علمية جديدة يتطلب الأمر توالي بحوث، وتكاثف جهود، وتراكم خبرات، وتعاقب فشل ونجاح، وصواب خطأ، وتصحيح واستدراك.. وهذه الحقيقة الجلية لها أبعاد كثيرة وتنتج عنها حقائق خطيرة، من أوضحها وأبينها أن العلم استكشافي، أي كلما تطور اكتشف ما كان مجهولا، وصحح ما كان خاطئا، وهذا ما يفسر لنا ظهور نظرية علمية على أنقاض نظرية علمية أخرى، تنتقدها وتأتي بتفسير جديد كلية، بديلٍ عن النظرية السابقة أو بتفسير جديد نسبيا لها يعدلها جوهريا أو ظاهريا.ما معنى هذا الكلام؟ معناه أن الحقائق العلمية منها ما هو قطعي لا يختلف فيه الناس، ومنها ما هو نسبي لا يمكن القطع به، وقد تبطله البحوث المستقبلية وقد تثبته وقد تعدله، فالعلم باتفاق العقلاء والعلماء ليس قطعيا كله، ولا يمثل الحقيقة المطلقة،هذه حقيقة أولى.الحقيقة الثانية هي أن العلم رغم تطوره الرهيب الذي عرفه في القرون القليلة الأخيرة، وخاصة في العقود الأخيرة منها ما يزال ضئيلا جدا مقابل ما هو مجهول!! فالعلماء متفقون ومجمعون على أن نسبة ما يعرفونه من الكون ضئيلة جدا جدا، يقدرها أكثرهم بحوالي: 5% وهي نسبة لا تكاد تذكر، وصدق الله جل في علاه: {وما أُوتيتم من العلمِ إلا قليلاً}، والذي يجهل أكثر مما يعلم، بل ما يعلمه لا يساوي شيئا أمام ما يجهل، لا يحق له أن يجادل بالعلم، ولا يحق له الاستدلال بالعلم في القضايا الكبرى والمصيرية للإنسان؛ لأن احتمال خطئه - بسبب سعة مساحة جهله - أكبر وأكبر وأكبر من احتمال إصابته! ولا يمكن أن يخالف في هذا عاقل.الحقيقة الثالثة هي أن العلم ما هو إلا اكتشاف للقوانين التي جعلها تسير هذا الكون في دقة متناهية وانسجام باهر وعظمة معجزة، فالعلم يفسر الظواهر الطبيعية ويسعى لاكتشاف القوانين التي تحكمها، لا غير، وكثيرا ما يخطئ العلماء في تقرير هذه القوانين بسبب محدودية عقولهم ومحدودية إمكانياتهم؛ ولهذا كلما تطورت التقنية ظهرت لهم حقائق دقيقة كانت غائبة عنهم، فيكتشفون بذلك خطأً كانوا يظنونه صوابا، فيتركون ما كانوا عليه أو يعدلونه! وبإزاء هذا، فإن الإسلام هو الدين الحق الذي أنزله الله تعالى للإنسان ليسير على وفق قانونه حتى يحقق مصالحه في دنياه وأخراه، {فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرت اللَّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللَّه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}، فمن جهِل أن أحكام الإسلام هي فقط (القوانين) التي تتناسب مع فطرة الإنسان وطبيعته، وهي فقط التي تصلح له وتُصلحه وتحقق مصالحه، فهو لا يعلم حقيقة الأمور على ما هي عليه، وعلمه ناقص قاصر محدود جدا جدا؛ لأن البشر إذا كانوا لا يعلمون عن الكون وهو تحت تصرفهم يدرسونه ويبحثون عن خباياه إلا 5% فهم لا يعلمون عن الإنسان نفسِه وروحه إلا أقل من ذلك بكثير، أما عالم الغيب فهم لا يعلمون عنه شيئا إلا ما أخبرهم به الوحي المعجز! وحقيقة أن الإسلام هو قوانين الله تعالى التي جعلها تضبط علاقات الإنسان مع غيره، وما يكتشفه العلم بالطبيعة هو القوانين التي جعلها الله تعالى تضبط سير الكون وإيقاعه تؤكد أنه يستحيل أن تتعارض حقائق الإسلام مع حقائق العلم إلا عند الجاهلِ، جاهلٍ بالإسلام أو جاهلٍ بالعلم أو جاهلٍ بهما!مع كل هذه الحقائق البينة نجد من الناس من يزعم أو يدعي أو يتباهى بأنه لا يؤمن إلا بالعلم!، ولا يسلم إلا للعلم!، فإذا حدثته بآيات القرآن المعجزة أو حقائق الدين البينة، نفر وقال: لا أؤمن إلا بالعلم! إلا أن هذه مغالطة مفضوحة إذ أن أصحابها كأنهم ينطلقون من منطلق أن ما يقرره الوحي والدين هو جهل، والعلم هو ما تنتجه المخابر والبحوث فقط...! مع أن كل العقلاء وكل العلماء -كما ذكرنا- متفقون على أن البحوث والدراسات والنظريات قد تكون خاطئة كليا أو جزئيا، وأن الباحثين والدارسين مهما بلغوا من العلم فهم عرضة للخطأ والقصور والتحيز، ثم إن ما يقرره الوحي والدين من حقائق غالبا ما تكون بعيدة عن ما يخوض فيه العلم، كما أن مجال العلم غالبا ما يكون بعيدا عن مجال الدين وأحكامه! مما يظهر لنا سخافة وصغر عقول ومحدودية أفق من يحاول أن يتوهم معركة بين حقائق الدين القطعية ونظريات العلم!بيد أن السؤال الأهم هنا هو هل يؤمنون حقا بالعلم؟ أم همهم الأوحد هو معاندة أحكام الله تعالى وجحد دينه؟! إن الحقيقة الواضحة الجلية هي أن هؤلاء القطعان من البشر الذين ملأوا الدنيا ضجيجا: لا نؤمن إلا بالعلم! لا نؤمن إلا بالعلم! هم أول من يكفر بالعلم إذا كان حجة تنصر الحكم الشرعي وتؤكده! ودليل ذلك أن الجميع يعلم أن الإسلام يعد الخمر من الكبائر: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر اللّه وعن الصلاة فهل أنتم منتهون}، وكل الدراسات العلمية تؤكد أضرار الخمر على صحة الإنسان وأخطاره على الأسر والمجتمعات، والجميع يعلم التكلفة الثقيلة لعلاج الدمار الذي يسببه الخمر والإدمان.. ولكنهم هنا يكفرون بالعلم معاندة للإسلام!والجميع يعلم أن الإسلام حرم الشذوذ الجنسي، وعده من كبائر الذنوب وأفظع الفواحش وأقرفها: {ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون}، وكل الدراسات العلمية أثبتت أن الشذوذ الجنسي سبب لأمراض جنسية فتاكة، وآثاره النفسية والاجتماعية أشد فتكا، ولكنهم هنا يكفرون بالعلم معاندة للإسلام! ومن هنا نفهم دقة ما قال لوط عليه السلام لقومه: {ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون * أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون}، فهم يصرون على ارتكاب الفاحشة النتنة مع أنهم مبصرون حقيقتها وضررها، فصاروا جاهلين بحق، كحال الغربيين الآن يكفرون بالعلم حنقا على الإسلام، ويقترفون ما هم أعلم بضرره وخطره، وهذا هو الجهل الحقيقي!ومثل اللواط الزنا والربا وكل ما حرمه الإسلام، أثبتت الأبحاث العلمية والدراسات المتكررة التي يقوم بها الغربيون أنفسهم أنها دمار للبشرية، ولكنهم يكفرون بالعلم الذي يدعون أنهم لا يؤمنون إلا به معاندة للحق وجحدا: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين}. فيا ليت شبابنا يعلمون حقيقة هذا النفاق العلمي، ويا ليتهم يفقهون ظاهرة: متى يكفرون بالعلم؟*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات