ظاهرة التنطع في العلم والدين.. تشخيص الأسباب

+ -

 إن من أخطر الظواهر التي تهز كيان الثقافة الإسلامية وتخرم عقد سلكها المنظوم، ظاهرة التنطع في الدين والعلم، حيث أصبحت معها العلوم الشرعية، وبخاصة الأحكام ومجال الإفتاء، ملاذًا لكل من قرأ من الفقه عبارتين، وأحسن لسانه نطق كلمتين، بحجة أو بدون حجة، فتراهم يحلون ويحرمون، وفي كل واد يهيمون، يشددون على الناس ما يسر الله عليهم فيه، ويطلقون للانسياب عنانه فيما أراد الله فيه الحيطة والأدب، يزعمون أن الاجتهاد ميسر للجميع؛ أي من علم، ومن لم يعلم، وأعني بذلك من أحسن القراءة، ومن لم يحسنها، ضاربين بعلم الأئمة الأعلام عرض الحائط إلا من رضوا عنه؛ لموافقة بعضٍ من علمه وفقهه هواهم، ومحققا رغبتهم، مستندين على مقولة لبعض علماء السلف، بعد أن وضعوها في غير موضعها وأجروها على غير مقاصدها، وهي: هم رجال ونحن رجال، ولكن شتان ما بين الرجال والرجال.لكننا إن حاولنا أن نبحث في أسباب هذه الظاهرة التي تكاد تغطي كثيرا من البلاد الإسلامية، وجدناها، حسب رأينا، ثلاثة أسباب رئيسة هي:أولاً: انعدام المشيخة: أي إنَّ السواد الأعظم من الذين يسلكون هذا الطريق وينتمون إلى هذا الفريق، هم الذين تزوّدوا بمعلوماتهم من صحائف الكتب، لا من ألسنة الشيوخ وعقول الرجال، وهم ثلاثة أصناف:الصنف الأول: مَنْ لا شيخ لهم يسعفهم في الفهم، ولا سند لهم يربطهم بالعلم، بل هم من أصحاب الحِرَف والمهن العامة في المجتمع، فقرؤوا بعض الكتب، وحفظوا بعض العبارات، وظنوا أنهم من الاجتهاد على مرمى حجر، وأنهم أهلٌ للكلام في النهي والأمر.الصنف الثاني: مِنْ خرّيجي الجامعات، وحاملي الشهادات، موشحة بأعلى الدرجات، فهم لا يعرفون شيوخهم إلا يوم الامتحان، ولا يدركون من شهاداتهم إلا أسماءها، فكيف لهم أن يصيبوا إذا اجتهدوا؟.الصنف الثالث: منْ لهم في العلم شيوخٌ، ولكنَّ شيوخَهم لا شيخ لهم، فنسجوا عقولهم على منوالهم، وكوّنوهم على طريقتهم، فكانوا صورة منهم.ثانيًا: إنّ العلم النافع المفيد ما اقترنت روايته ودرايته بمعنى من الإيمان، فَرْعاه الخوف الشديد من الرحمن، والأدبُ الجمُّ مع علماء الإسلام من السلف والخلف، فإذا انخرمت جهة الإيمان لم يبق للرواية والدراية معنى إلا كمثل الحمار يحمل أسفارًا، ولهذا المعنى قال مالك رحمه الله: “ليس العلم بكثرة الرواية أو الدراية، وإنما هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء”.ثالثًا: إنّ الثقافة الإسلامية، ونعني بها العلوم الشرعية والمعارف الدينية، معنى مرتبط بالخلافة (الملكية أو الرئاسة)، فهو جزئي من كليِّها، وعنصر أساسي من مقوماتها، فهي قائمة عليه، وهو منفَّذ بها، فهو سار في المجتمع على عينها، وقائم بسلطانها من خلال أهل الحل والعقد، ومحمي بقوتها.ولما انفصلت الولاية عن كيانها وتخلت عن وصايتها، تفرق العلم معها، فمال الناس بالدين عن وجه الديان إلى هوى السلطان، فخرج عن عبادته إلى مآرب حامله، وصار بعضهم يضرب بعضًا بين الأصقاع والأقطار، بل ارتدّ بعضُهم على خير القرون، وسلط سيفَ لسانه طعنًا في الأئمة الأعلام.وأمام هذا الخطر الداهم، يكون من واجبنا، وبخاصة المسؤولين عن ثغور العلم والدين في هذه الأمة، أن نفكر بجدّية في السبل الكفيلة بصناعة رجال، يملكون من الكفاءة العلمية والإيمانية ما يمكنهم من التصدّي لهؤلاء المتطفلين على العلم والدين، ويعملون عمل أسلافهم من أمثال الإمام أحمد بن حنبل في مسألة خلق القرآن، والأئمة الذين تصدّوا للمعتزلة، وأمثالهم في الأندلس مع الظاهرية، والعبيديين في القيروان، وأمثال ذلك في تاريخنا كثير.. والله الموفق لما فيه الخير والصواب.*مدير تحرير مجلة “آفاق الثّقافة والتّراث”

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات