إقامة الإحسان في التصرفات الاقتصادية وتحقيق المعارف العليا للشريعة

38serv

+ -

 قال تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} النحل:90. قال ابن مسعود رضي الله عنه: هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل ولشر يجتنب، ومن ثم فهي لم تقتصر على الجانب التكليفي فحسب، بل امتدت إلى أبعد من ذلك لتشمل الجانب الأخلاقي والآداب التي ترسخ إرادة تحقيق المصالح، وتقوّي عزيمة قطع المفاسد، ومن هنا قال الرازي: “جمع في هذه الآية ما يتصل بالتكاليف فرضا ونفلا، وما يتصل بالأخلاق والآداب عموما وخصوصا”.

هذه الآية تدل على أن الاقتصاد الإسلامي هو اقتصاد لخير الفرد والمجتمع، وأنه يستهدف تحقيق أمرين أساسيين هما:

1- تحقيق المصلحة والمنفعة وجلب الطيبات للفرد والمجتمع، والدولة، وأنه قائم على الإحسان، وأن دور المكلف فيه وغايته التي يسعى لتحقيقها هي تحصيل كل ما ينفع الناس، فكما أحسن الله إليه، فهو كذلك خليفة الله في الأرض، يحسن إلى كل من هو تحت مسؤولياته.

2- أن يكون هذا الإحسان إحسانا شاملا وعاما ودائما مثل ما أطلقه القرآن دون تقييد، لأنه إحسان مشتق من إحسان الله تعالى، فوجبت فيه الصفات السابقة كمّاً وكيفا ونوعا، مع ملازمته لكل التشريعات الاقتصادية كملازمة الحكم لعلته..

ومن ثم وضعت الشريعة على أن تكون أهواء الخلق تابعة لمقصود واضعها، وأن تكون فيها الأحكام محمية بالإحسان، وأن يكون الإحسان محروسا بالأحكام في مقام تظلله الولاية الإلهية، مقام لا يعرج إليه إلا من كانت له ملكة في علوم الشريعة تمكّنه من الإحاطة بتفاصيلها وأسرارها، وقوة يقين وإصابة عين التوكل تبصره بمعنى الأخوة وحقيقة المحبة في الله، وتسعفه في إسقاط حظوظه لصالح تلك الأخوة والمحبة في الله، إما جزئيا فيكون حظه مثل حظ أخيه، أو كليا فيسقط كامل حظه لصالح أخيه اعتمادا على ذلك اليقين.

وكما قيل قديما بالمثال يتضح المقال، ولمزيد من البيان والتفصيل والتدليل نسوق هذه المسألة: لو أن شخصا أراد جلب مصلحة له أو دفع مفسدة عنه دون أن يقصد من عمله هذا الإضرار بالغير، ولكن يلزم عن عمله ضرر لغيره على جهة الخصوص، كالإضرار بشخص آخر مثله، ولو منع هذا الشخص من عمله، للزمه ضرر بسبب هذا المنع، وذلك لاحتياجه إلى هذا العمل.
فالنظر في هذه المسألة يكون من وجهين:

الوجه الأول: والنظر فيه يعود لإثبات الحظوظ واعتبارها، وذلك كدفع الشخص مظلمة عن نفسه، هو في يقين من وقوعها عليه، وفي شك من وقوعها على غيره إذا دفعها عنه، ومثله السبق إلى شراء طعام، أو ما يحتاج إليه، أو إلى صيد، أو حطب، أو ماء، أو غيره، عالما أنّه إذا حازه تضرّر غيره بعدمه، ولو أخذ من يده تضرّر هو، ومثل هذا حقّ الشخص فيه ثابت شرعا، ولا مخالفة فيه.

الوجه الثاني: والنظر فيه يعود لإسقاط الحظوظ، وهو يقع من جهتين: الجهة الأولى: إسقاط الحظّ هنا متمثل في إسقاط الاستبداد والاستئثار بالحق والدخول في المواساة مع باقي أفراد العموم، وهو سلوك من أسمى مكارم الأخلاق يحمد فاعله عليه، فيصبح غيره في نظره مثل نفسه، فهو على ذلك واحد منهم، وإذا آل الأمر إلى هذا، فإنه يصبح غير قادر على الاستئثار لنفسه دون غيره ممن هو مثله. ونظير هذا التصرّف وارد في قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قلّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم منّي وأنا منهم”، ومنها صدقة عثمان بن عفان رضي الله عنه ببئر رومة؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من يشتري بئر رومة فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين”، فاشتراها عثمان وتصدق بها على المسلمين. الجهة الثانية: إسقاط الحظّ من هذه الجهة يعني إيثار غيره على نفسه في حقه الذي لا ينازعه فيه أحد من جهة الشرع لو أراد الاستبداد به دون غيره، وهذه مرتبة يغشى فيها الإحسان الأحكام اعتمادا على قوة اليقين وصحته، وإصابة عين التوكل على الله، في احتمال مشاق المعونة للأخ في الله لأجل المحبة فيه عز وجل.

وهذا سلوك قد حرصت الشريعة على الدعوة إليه على وجه العموم في قوله تعالى: {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولَئك هم المفلحون} الحشر:9، وعلى وجه الخصوص في وقائع كثيرة، منها قوله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} الإنسان:8-9، ومنها أيضا ما نقل عن خلقه صلى الله عليه وسلم: “أنه كان أجود الناس بالخير، وأجود ما كان في شهر رمضان، وكان إذا لقي جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة”.