منع التعاون على الإثم والعدوان وأكل المال بالباطل

+ -

 إن المقصود بأكل المال بالباطل أكله بغير حق شرعي، وقد قال ابن العربي في بيان معناه عند حديثه عن الجهات التي يرجع منها الفساد إلى البيع: (وحدّه أن يدخلا العاقدان في العقد على العوضية، فيكون فيه مالا يقابله عوض). والذي يفهم من هذا التعريف أن ما يدفعه أحد طرفي العقد من عوض لصاحبه يكون فيه جزء زائد ليس له ما يقابله في العوض الذي يقبضه، فيكون القابض لذلك الجزء الزائد آخذ لمال غيره بغير حق وآكلا له بالباطل.

ويكون الأكل للمال بالباطل من وجوه عديدة: منها الربا، والقمار، والميسر، وما يفسد البيوع من الغرر والجهالة، والغش، والتدليس والنجش، والحيلة، والغصب، والخيانة، وكل ما من شأنه أخذ أموال الغير دون حق. ولذا، استلزم الكسب في الإسلام بذل الجهد وتحمل المخاطرة، فلا يقعد صاحب المال عن طلب الرزق والعمل ويكتفي بعوائد أمواله من القمار والميسر وما في حكمهما، دون بذل جهد أو تحمّل مسؤولية، قال تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتُدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} البقرة:188، وقال تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيّبات أحلت لهم وبصدّهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نُهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما} النساء:160–161.
وقد نالت حرمة الأموال ومنع أكلها بين الناس بالباطل اهتماما بالغا من قبل السنة النبوية، سواء كان ذلك ببيان حرمتها من جهة العموم في عدة نصوص، أم بالتنبيه على ذلك في الوقائع الخاصة أم بأنواع التصرفات، والجزئيات المختلفة.

فقد بيّنت السنة أنه لا يجوز أخذ أي شيء من مال مسلم ما لم تكن نفسه طيّبة بذلك راضية به، إلا أن يوجب أخذه نص كتاب أو سنة أو إجماع أمة، قال صلى الله عليه وسلم: “لا يحلّ مال امرئ مسلم بغير طيب نفس منه”.

إلا أن السنة لم تكتف بالنهي عن أكل المال بالباطل وتحريمه والتشنيع بفاعله وتوعده بالخسران والبوار، بل جعلته مناطا لعدد من أحكامها، من ذلك ما قاله أنس بن مالك رضي الله عنه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهو، فقيل له وما تزهو؟ قال: حتى تحمر، ثم قال: أرأيت إذا منع الله الثمرة بما يأخذ أحدكم مال أخيه)، والذي يتبيّن لي أن النهي في هذا الحديث مبناه على أساس قطع كل السبل المفضية إلى أخذ أموال الناس بغير حق، ولئلا يكون بيع الثمار قبل بدو صلاحها ذريعة إلى أكل مال المشتري بغير حق، إذا كانت معرّضة للتلف، وقد يمنع الله حصول صلاحها؛ لأن الأصل في مثل هذه المعاوضات والمقابلات التعادل بين الجانبين، فإن اشتمل أحدهما على الغرر دخلها الظلم، فحرّمها الله الذي حرّم الظلم على نفسه، وجعله محرّما بين عباده، قال ابن القيم: (وقد أكد هذا الغرض بأن حكم للمشتري بالجائحة إذا أتلفت بعد الشراء الجائز، كل هذا لئلا يظلم المشتري ويأكل ماله بغير حق).

وعلّق ابن العربي على الحديث السابق فعدّه أصلا في الدين، وتنبيها على كثير من الوجوه التي يتطرّق بها الفساد إلى بيعات المسلمين، وذلك أكل للمال بالباطل، ومفهوم الباطل عنده في هذا الحديث العقد الذي لا يفيد مقصوده، وذلك أن العقد إما أن يدخل فيه المتعاقدان على أن يكون المال من جهة أحدهما، والثمن من جهة الآخر، فذلك جائز، وأما أن يكون على نقل الملك والتبادل بينهما من عين إلى عين، فلا يجوز على قصد أن يكون أحدهما مستفيدا مقصوده بعقده والآخر فائت المقصود كله، أما إن الشرع قد رخص في أن يستغفل أحدهما من مال الآخر ما قدر عليه من غير غش إلا بقدر الحاجة من أحدهما والاستغناء من الآخر، فإذا دخل بين المتعاقدين قصد فاسد، فلا بد أن يقترن به من جانب الشريعة نهي جازم، فيكون ذلك فسادا فيه على الاختلاف في وجه الفساد وحاله ومآله، فإذا ابتاع الثمرة مثلا قبل بدو صلاحها، فهي معرّضة للآفات، ويجري عليها ذلك كثيرا في الاعتياد، فيحصل صاحب الثمرة على الثمن ويخسر الآخر ماله. ويرى ابن العربي أن هذا التصرف لا يمكن قبوله في الشريعة حتى وإن حصل التراضي عليه بين المتعاقدين، فإن الله عز وجل لا يرضاه، وهو معنى قوله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} البقرة:188، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه”.

وبناء عليه، فإن النشاط الرئيسي لسوق الأوراق المالية يتحوّل بفعل القمار وسلوك المقامرين من الاستثمار الحقيقي إلى عمليات صورية يؤجل فيها كلا طرفي المعاوضة وهي الثمن والسلعة، سعيا وراء انتهاز الفرص الناشئة عن تغيرات الأسعار، فإن صحت توقعاتهم ربحوا وإن لم تصح انتكسوا. وبالتالي، فقد قادت المقامرة إلى سلوكيات ضارّة لكسب فروق الأسعار من خلال الإشاعات الكاذبة، اعتمادا على حساسية السوق تجاه هذه الإشاعات، وأيضا من خلال عمليات الإحراج، والبيع والشراء الصوري، والمشتقات.

ومن التصرفات التي تدخل في باب التعاون على الإثم والعدوان وأكل الأموال بالباطل المقامرة التي تؤثر تأثيرا سيئا في رأس المال، لاعتمادها على تخمين تقلبات الأسعار في المستقبل بعكس المخاطرة التي تعتمد على جدوى الاستثمار، وتتأثر سوق الأوراق المالية في الواقع بالمقامرة أكثر منها بالمخاطرة، وهكذا تضطرب أسعار القيم ذات الآجال الطويلة، ولا تعبّر عن جدوى الاستثمار الحقيقية. وبهذا، يصبح الاستثمار وبالتالي الاقتصاد الوطني ألعوبة في يد المقامرين، يحرّكونه حسب أهوائهم وطمعهم، ويقول كينز: تحوّلت البورصة من سوق منافسة حر تحسن تخصيص الموارد، إلى نادٍ للقمار يلعب فيه المقامرون بمقدرات الأمم الاقتصادية”.

* مدير تحرير مجلة “آفاق الثّقافة والتّراث”