لا خير في الأمّة ما لم تُعظّم الجمعة!!

+ -

 مما سمعناه صغارا يُنسب لشيخنا العلامة أحمد سحنون عليه شآبيب الرحمة والرضوان ما معناه: إن مجد الأمة لن يرجع ما لم يمتلئ المسجد في صلاة الصبح كما يمتلئ في صلاة الجمعة!!.

تذكرتُ هذا القول وأنا أصلي الجمعة مأموما لا إماما كعادتي، ونفسي تحاورني: ما زالت المساجد تمتلئ في الجمعة، ولكن بأيّ حال تمتلئ؟، وما حال من يملؤها؟، كم من مسجد في ربوع الوطن يمتلئ هذا الامتلاء الكبير؟، وكم من مسجد في أصقاع العالم تمتلئ فيه المساجد في صلاة الجمعة هذا الامتلاء الكبير؟، وماذا بعد؟، وأين الأثر؟، وأين الخلل؟.

إن يوم الجمعة هو يوم ليس كباقي الأيام!، وإن صلاة الجمعة هي صلاة ليست مثل باقي الصلوات؟، فهو اليوم الوحيد الذي سُميت باسمه سورة من القرآن العظيم، وصلاته هي الصلاة التي أُوجب على المسلمين الاجتماع لها والسعي إليها وترك الانشغال بأمور الحياة الدنيا للتفرغ لأدائها؛ {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}، وشُدّد النكير على من تركها، ففي الحديث: «من ترك ثلاث جُمَع تهاونًا بها طبع الله على قلبه» رواه أحمد وأبو داود؛ ولهذا وغيره خصّها الله تبارك وتعالى بخصائص تعظيما لشأنها وتفخيما لأمرها، ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في ((زاد المعاد)) ثلاثًا وثلاثين خصيصة منها، وجاء بعده الإمام السيوطي رحمه الله وكتب رسالته ((اللمعة في خصائص الجمعة)) فبلغ بخصائص الجمعة مائة وواحدا. يكفي أن نعلم منها أن يوم الجمعة هو خير أيام الأسبوع وأعظمها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها» رواه مسلم. وعنه أيضا رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما تطلع الشمس بيوم، ولا تغرب، بأفضل -أو أعظم- من يوم الجمعة» رواه أحمد.

ويكفي أن نعلم أن الخلائق جميعا تعظم هذا اليوم وتشفق منه، وهذا ما يجب على المؤمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة: فيه خُلق آدم، وفيه أُهبط، وفيه تِيبَ عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة. وما من دابة إلا وهي مُصِيخَةٌ [أي مصغية مستمعة مع التوقع لأمر يطرأ] يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس. وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم، وهو يصلي، يسأل الله حاجة إلا أعطاه إيّاها» رواه مالك وأحمد.

دارت هذه الخواطر وغيرها في رأسي وأنا أقلب فكري في حالنا يوم الجمعة، وفي سلوكاتنا فيه، فما أحسست به ولمسته من سلوك أكثر الناس هو قلة اكتراث به، وبُهوت تعظيم له، وكأنه يوم كباقي اليوم، وكأن الصلاة المفروضة فيه حمل ثقيل، يجب التخلص منه بأي صورة من الصور، وبأي طريقة من الطرق، لقد ظهر لي عدم التعظيم هذا في الطريق إلى الجامع لحضور الجمعة حيث تبادل النكات، والحديث في الرياضة وغيرها، فلا سكينة ولا وقار ولا تعظيم، وفي الحديث: «إذا ثُوّب بالصلاة فلا يسع إليها أحدكم ولكن ليمش وعليه السكينة والوقار..» رواه مسلم. وأيضا في انتظار الصلاة خارج المسجد الفارغ بالكلام الفارغ. ثم الصلاة خارج المسجد أو في آخر الصفوف، وفي الحديث: «من غسّل يوم الجمعة واغتسل، وبكّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، فاستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة: عمل سنة، أجر صيامها وقيامها» رواه أحمد وأصحاب السنن.

وظهر لي عدم التعظيم هذا في لباس الناس، حيث يغلب عليه اللباس الرياضي بما فيه من أسماء التافهين من اللاعبين، وأسماء الشركات المشهِرِة عليه، والصور الساقطة، وحتى الرموز الدينية الكفرية!، فإن لم يكن لباسا رياضيا فهو لباس عادي، وفي الحديث: «ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوب مهنته» رواه أحمد وابن حبان.

وظهر لي عدم التعظيم هذا في استماع الناس للدرس والخطبة في ذهول وملل، وتأمينهم على دعاء الإمام في تماوت، مع مخالفة قبيحة للسنة النبوية (الثابتة بإجماع العلماء) بعدم رفع اليدين أثناء الدعاء، “وهو من آداب الدعاء التي يُرجى بسببها إجابته”؛ لحديث: «إن ربكم تبارك وتعالى حييٌّ كريم يستحيى من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا» رواه أحمد وأصحاب السنن، والغريب أن كثيرين يفضّلون العبث بالبيدين في الثياب أو سجاد المسجد على رفعهما للدعاء اقتداء بسيد الأنام عليه السلام، وكم من سنة بيضاء نقية ثابتة بلا مِرْيَة قتلت باسم السنة ومحاربة البدعة، وللناس في جهلهم فنون وألوان!، وفي الحديث: «من توضأ، فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام. ومن مس الحصى فقد لغا» رواه مسلم.

وظهر لي عدم التعظيم هذا في تأخر كثيرين في حضورهم إليها، حتى يؤذن للخطبة، ويصعد الإمام على المنبر ويشرع في خطبته، وبعضهم لا يصل إلا في نهايتها، أو في الصلاة، وربما في الركعة الثانية منها!، فيضيّع على نفسه أجر الجمعة وبركتها، ويضيّع فائدتها وحكمتها، ذلك أن من جاء بعد صعود الإمام إلى المنبر لا يكتب في السجل الخاص بالجمعة، ففي الحديث: «إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة، يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طَوَوا الصُّحف، وجاءوا يستمعون الذّكر..» رواه البخاري ومسلم.

وظهر لي عدم التعظيم هذا في تعامل بعض الأئمة مع الجمعة صلاة وخطبة، فلا يعطونها حقها ومستحقها من الاهتمام، والتهيؤ والتحضير، فلا اللغة لغة محترمة، بل غالبها عامية ساقطة ودارجة مبتذلة (طبعا بحجة الإفهام!، ومن يقول هذا هو من يحتاج إفهاما إن كان ذا فهم!)، والموضوع ضعيف بناء ومعلومات ومقاصد، بل هو تكديس لمعلومات ونصوص، ورمي بها على أسماع الناس!، أو استعراض لعضلات حفظية أو إلقائية!، دون مساس بالواقع ولا استهداف لإصلاحه توجيها وترشيدا!، وإني أرى أنه من الحرام المنكر أن يرتقي مرتقٍ أعواد المنبر في هذا الزمن دون التحضير القوي والعميق للموضوع إجلالا لمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعظيما لما عظمه الله تعالى، ونصحا للمسلمين واحتراما.

هذا، وإن عدم التعظيم للجمعة له مظاهر عدة، لا يمكن حصرها ولم أقصد ذلك، وإنما أردت التنبيه لهذا الملمح الخطير؛ لاعتقادي الجازم أنه لا خير في هذه الأمة ما لم تعظّم الجمعة!.

*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة