لا خير في الأمة ما لم تقتد برسول الله صلى الله عليه وسلم

38serv

+ -

 إن الله جل شأنه أكرم هذه الأمة بأن جعلها خير أمة أخرجت للناس، وجعل حكمه بذلك قرآنا يُتلى إلى يوم الدين، إفراحا للمؤمنين، وتحزينا وغما للكافرين والمنافقين: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}، هذا حكم رب العالمين على الناس أجمعين، وخاصة المسلمين، فالقرآن الكريم يحكم على المسلمين وغير المسلمين، ولا يُحكم بواقع المسلمين ولا بواقع غيرهم عليه، ولا يحاكم به، بل المسلمون محججون بالقرآن الكريم الذي قرر رفعهم إلى أعلى الرتب، ورضوا هم بأن يرتدوا أسفل السافلين، فيكونوا في ذيل الأمم، عالة على غيرهم، في شقاق وافتراق، وتبلبل وتململ، طريق الصعود لائح أمام ناظريهم، ولكنهم اختاروا طريق الهُوِي والسقوط والنزول المظلم. ولوا أنوار هداية الوحيِ ظهورهم وانبهروا بالأضواء الاصطناعية للغرب المستكبر.

ولا يستغربن عاقل هذا التناقض بين ما يقرره القرآن من خيرية الأمة ووضعها المزري واقعيا، ذلك أن الله تبارك وعز حين حكم بحكمته البالغة أن الأمة الإسلامية هي خير أمة أخرجت للناس وضع لذلك شروطا قرن بعضها مع هذا الحكم الجليل في الذكر، وفرّق باقيها على مواضع من التنزيل، قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله..}، فهذه ثلاثة شروط مقترنة بهذا الحكم في الآية: التحقق بالإيمان، والقيام بالأمر بالمعروف، والحرص على النهي عن المنكر. أما غير المقترنة فهي كثيرة، ومن أبرزها: وجوب الاقتداء بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مناط الهداية في الدنيا، وهو سبب الفلاح في الآخرة، قال سبحانه: {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حُمِّل وعليكم ما حُمِّلْتُم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين}، ومعنى: {وإن تطيعوه تهتدوا} إن اتبعتم هديه واقتديتم به حق الاقتداء هديتم إلى الصراط المستقيم والمنهج القويم قولا وعملا المؤدي إلى الفوز في الدنيا ابتداء والفلاح في الآخرة انتهاء، وهديتم إلى الحق الموصل إلى كل خير، المنجى من كل شر. فلا سبيل إلى الهداية في هذه الدنيا إلا بطاعته، ولا طريق إلى النجاح فيها إلا بالاقتداء به، وبدون ذلك، لا يمكن، بل هو محال.

وقال جل شأنه: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}، وهي آية كثيرة الترداد والتكرار في الخطب والدروس والمحاضرات، يحفظها الصغير والكبير، والعالم والجاهل، والأمي والقارئ، والطائع والعاصي، ومعناها واضح جلي، لا يخفى على أحد، وما من مسلّم له مُسكة من الالتزام بدينه، بل له شائبة انتساب إليه إلا هو يدعي الاقتداء بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، متشرف بذلك، حريص عليه. بيد أن هذا الواجب العظيم (واجب الاقتداء) ظلم من قبل نوعين من المسلمين. النوع الأول: المسلمون الذين انسلخوا من دينهم إلا قليلا قليلا، فأهملوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن جهلوها، واستبدلوا بها عادات غربية أو غريبة، فضيعوا الخير الكثير على أنفسهم وأهليهم، حسنا في الدنيا وأجرا في الآخرة. والنوع الثاني: المسلمون الذين يتحمسون للسنة الشريفة والاقتداء بها، ولكنهم شغلوا أنفسهم وشغلوا الأمة بالقضايا الجزئية، والمستحبات الشكلية، والسنن الصغيرة المتعلقة بالظاهر والمظاهر، وأهملوا بذلك القضايا الكلية المتعلقة بالاقتداء بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصروا في الاهتمام والعلم والعمل بالسنن الكبيرة المتعلقة بالحياة، وغفلوا عن سنن الكمالات النفسية والسنن الحضارية التي تميز المسلم الحق عن غيره من الناس، والتي هي السنن الدافعة للمعالي، الباعثة على الخير، المحفزة على النجاح والإنجاز.

إن من الجميل أن يقتدي المسلم بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المستحبات الصغيرة شرطَ أن يحرص على الاقتداء به في السنن الكبيرة، ومن الجميل أن يقتدي المسلم بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السلوكيات اليومية شرط أن يحرص على الاقتداء به في الأخلاق النفسية الجليلة، ومن الجميل أن يقتدي المسلم بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهدي الظاهر والشكليات شرط أن يحرص على الاقتداء به في الباطن والأمور الجوهرية، ومن الجميل أن يقتدي المسلم بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القضايا الجزئية شرط أن يحرص على الاقتداء به في القضايا الكلية.. إلخ.

فمثلا من الجميل جدا أن يحرص المسلم على إلقاء السلام بألفاظه الشرعية، وهذه عبادة يؤجر عليها المسلم، فقد روي عن مالك بن التيهان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال: (السلام عليكم) كتب له عشر حسنات، ومن قال: (السلام عليكم ورحمة الله) كتب له عشرون حسنة، ومن قال: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) كتب له ثلاثون حسنة» رواه الطبراني، وفي مقابل (salut / Hi) وغيرها من التحايا تكون أوجب وألزم؛ لأنها تكون طاعة دينيا وتعزيزا للهوية واقعيا، غير أن الأجمل مع هذا أن يحرص المسلم مثلا على الإتقان والإجادة والإحسان في كل ما يقوم به من عمل صغير أو كبير، واجب أو تطوع، رسمي أو غير رسمي، فالإتقان سنة نبوية جليلة نبيلة، يكفيها عظمة وأهمية أن الله جل شأنه يحبها ويحب فاعلها ويحبها منها، فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه» رواه أبو يعلى والطبراني. عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله محسن يحب الإحسان» رواه الطبراني، وعنه أيضا: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء..» رواه مسلم، والإحسان هنا هو الإتقان والإجادة. وكلنا يعرف حالنا مع الإتقان من تفريط وتقصير حتى صرنا مضرب المثل فيه (وستكون لنا عودة إلى الإتقان في هذه السلسلة إن شاء الله)، فأي طريق تسلك ترى نتائج عدم الإتقان ظاهرة عليه، وأي مبنى تدخل ترى نتائج عدم الإتقان ماثلة فيه، وأي منتج تقتني ترى نتائج عدم الإتقان بارزة فيه، وأي مخطط أو سياسة أو برنامج أو مؤسسة تدرس تجد عدم الإتقان هو اللائح عليه والحاكم والأصل... وكل من ينجز ما ذكر وغيره هم مسلمون يؤمنون بوجوب الاقتداء بخير الأنام!. فهل نؤمن ببعض السنة ونكفر ببعض؟!.

إن من المؤكد أنه لن تقوم لهذه الأمة قائمة بعيدا عن هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولن ترتفع هذه الأمة إلى مقام الخيرية كما أراد لها ربها الكريم ما لم تتقن الاقتداء بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة