+ -

 التوفيق في الحقيقة لا يُطلب إلا منه سبحانه؛ إذ لا يقدر عليه إلا هو، فمن طلبه من غيره فهو محروم: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}، وهذه الهداية يسميها أهل العلم هداية التوفيق، قال الحق سبحانه على لسان شعيب عليه السلام: {وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب}، وبهذا جاء التوجيه النبوي الكريم: “دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت”.

من أهم ما يصبو إليه الإنسان المؤمن طمعه في توفيق ربه إياه، ومن توفيق الله لعبده أن يزكي نفسه، فمن وفقه الله لتزكية نفسه فقد أفلح وفاز، يقول الحق سبحانه: {قد أفلح من تزكى}، قال الحافظ ابن كثير: “أي: طهَّر نفسه من الأخلاق الرذيلة، وتابع ما أنزل الله على رسوله”. وأعلى مراتب توفيق الله لعبده أن يحبب إليه الإيمان والطاعة، ويكره إليه الكفر والعصيان، وهذه المرتبة لا ينالها إلا الخلص من خلق الله، ولا أظن أن هناك جيلا اصطفاه الله كالجيل الذي رباه سيد الخلق، فهذا الجيل الخيّر امتن الله بنعمة التوفيق: {واعلموا أن فيكم رسول الله، لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم، ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون}.

وتوفيق الله لعباده يكون على أحوال كثيرة، فمنها: أن يعرض الخير على أناس فيردونه حتى ييسر الله له من أراد به الخير من عباده، وها هو صلى الله عليه وسلم يمكث أكثر من عشر سنين يعرض نفسه على القبائل لينصروه، فلم يستجيبوا له حتى وفق الله الأنصار لذلك، فنالوا الشرف العظيم في الدنيا والآخرة.

ومنها أن يوفق الله العبد في آخر حياته لعمل صالح فيموت عليه، ففي الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: “أسْلِم”، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم فأسلم، فخرج صلى الله عليه وسلم وهو يقول: “الحمد لله الذي أنقذه من النار”.

ومنها أن يوفق العبد لعمل قليل وأجره عند ربه كثير، يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنع بالحديد فقال: يا رسول الله أقاتل أو أسلم، قال: “أسلم ثم قاتل”، فأسلم ثم قاتل فقتل، فقال صلى الله عليه وسلم: “عمل قليلا وأُجر كثيرا».

واعلم رعاك الله أن للتوفيق أسبابا، ومن أعظمها وأجلها بر الوالدين جملة والأم على وجه الخصوص: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما}، فمن رزقه الله حنانا وشفقة على أبويه فهذا هو الموفق.

وإن من أعظم أسباب التوفيق تدبر كتاب الله، ففي تدبر القرآن، قرب من العلي الرحمن، فالله تعالى جعل كتابه بصائر وهدى، ورحمة وشفاء لعباده المؤمنين، فمن تدبر القرآن، وعرف مقاصده، هانت الدنيا في عينيه، وترك الفانيات، وسابق في الخيرات، ونافس في الطاعات والباقيات الصالحات: {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا}، ثم قال سبحانه مرشدا أولياءه من خلقه: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا}.

ومن تدبر القرآن عرف عظمة ما يقرأ، وعرف حال المؤمنين فسأل الله أن يسلك به سبيلهم، وحالهم في الآخرة وطمع من الله أن يلحقه بهم، وعرف حال الكفار والفساق والفجار، فجأر إلى ربه أن يعيذه من هذا الطريق، وعلم مآلهم في الآخرة فاشتد إلحاحه على ربه أن يجيره من النار: {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم}. والله ولي التوفيق.

*إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية – الجزائر1