ثقافة بثّ البشائر.. سنّة نبوية في زمن الشدائد

38serv

+ -

 إن الواقع الذي تتخبط فيه الأمة الإسلامية يعجب له العدو قبل الصديق، ويتألم له البعيد قبل القريب، وكلما اشتدت الأزمات وتكاثرت المصائب تجدنا نحسن البكاء على الأطلال، ونُكثِر النحيب والتوجع، بل إن أكثرنا يميل إلى اليأس والقنوط، ويبالغ في تقدير الموقف، ويحسم في تقرير عجزنا عن التغيير واستبعاد تحسن أوضاعنا، ويتطوع الكثير من الوعاظ في استحضار أحاديث النبي الكريم عليه السلام حول أشراط الساعة محاولين تأويلها بما يصدق مع الظرف الراهن للأمة، تأكيدا منهم بانقضاء الفرص أمامنا، وبأنه لم يبق لنا إلا انتظار القيامة، وفيها ينتصر لنا الله العدل القادر سبحانه.

وهذا جهل بسنن الله في الكون، وهو الذي يقول سبحانه: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين}، وجهل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان شعاره الحديث المشهور: «بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا».

لكن لو رجعنا إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا أن أكبر البشائر التي بشر بها أصحابه الكرام -والأمة جميعا من بعدهم- جاءت في أحلك الظروف وأشد الأزمات التي صادفتها الدعوة الإسلامية في انطلاقتها الأولى. وهذه النماذج التي سأذكرها تبين ذلك وتؤكده.

ففي خضم الاضطهاد الجنوني القرشي للمسلمين في مكة اشتكى الصحابة من شدة العذاب والاضطهاد، فقال خباب بن الأرت شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بُردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟، ألا تدعو الله لنا؟. قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله لَيُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون».

وفي طريق الهجرة، النبي صلى الله عليه وسلم من مكة بعد محاولة قتله، جعلت قريش جائزة لمن يأتي بالرسول الكريم وصاحبه الصديق حيين أو ميتين، فطاردهما أحد فرسان العرب، قال أبو بكر رضي الله عنه: «واتبعنا سراقة بن مالك، فقلت: أتينا يا رسول الله. فقال: «لا تحزن، إن الله معنا» رواه البخاري، وجاء في السيرة زيادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسراقة: «كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟»، فلما فُتحت فارس دعاه عمر رضي الله عنه وألبسه سواري كسرى وقال له: قل: الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز وألبسهما سراقة بن جعشم. ولم يكن بعد البشارة الكبيرة وتحققها العظيم إلا بضع عشرة سنة. وقد كان كسرى في ذلك الزمان يمثل أعظم دولة تتحكم في النظام الدولي آنذاك.

وفي طريق الهجرة أيضا وصلت قريش إلى فم غار ثور الذي اختبأ فيه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق، فقال أبو بكر رضي الله عنه: نظرتُ إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه. فقال: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما».

ثم في غزوة الأحزاب التي كانت أشد غزوة وأشد محنة تعرض للمسلمين، كما وصفها الله عز وجل في كتابه: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتُلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا}. قال لسلمان الفارسي في خضم حفر الخندق والمدينة محاصرة: «يا سلمان، لتُفتحن الشام، ويهرب هرقل إلى أقصى مملكته وتظهرون على الشام فلا ينازعكم أحد، ولتفتحن اليمن، وليفتحن هذا المشرق ويقتل كسرى بعده». قال سلمان: فكل هذا قد رأيت. إلى غيرها من البشائر النبوية التي لم تحتج سوى إلى سنوات معدودة لتتحقق وتقع.

وهكذا يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم ثقافة بث البشائر، ويشرح لنا عمليا معنى ومدى قوله: «بشروا...». ونستفيد من هذا أن الحال التي يجب أن نكثر فيها من ذكر البشائر هي حال الأزمات والشدائد؛ لما في ذلك من شحذ العزائم، ونشر الأمل، وتقوية النفوس، ومحاربة اليأس، وبث التفاؤل بين أبناء الأمة. وهذه السنن النبوية الجوهرية المهجورة أولى بالاهتمام دون شك من السنن الشكلية الظاهرية!.

* إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة