المتأمل في أحوال الخليقة يرى أنهم مذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حط رحالهم إلا في الجنة أو النار، فالدنيا ليست لهم بدار مقام، وليست هي الدار التي خلقوا لأجلها: {ثم إلى ربكم ترجعون}. وقد صوّر المعصوم حال المؤمن في هذه الدنيا الفانية بقوله: “كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل”، وقال علي رضي الله عنه موضحا مشقة السفر وطوله: (آه من طول الطريق وقلة الزاد).
استمع أيها الفاضل لقول ربك: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه}، فأنت في هذه الدنيا الفانية مسافر إلى ربك وراحل إليه، وستقف أمامه لا محالة، وسيكلمك ليس بينك وبينه ترجمان: “ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله يوم القيامة، ليس بين الله وبينه ترجمان، ثم ينظر فلا يرى شيئا قدامه، ثم ينظر بين يديه فتستقبله النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة”.
واعلم أن كل مسافر له أحوال، فالمسافر إلى الشيطان له أحوال، والمسافر إلى الرحمن له أحوال، فالمسافر إلى ربه يهيئ الزاد الذي يوصله إلى رضا ربه وجناته، وأهم ما يحتاج إليه في هذه الدنيا هو الزهد فيها والانصراف عنها قدر المستطاع: {وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع}، وقد ذم الله عز وجل أهل الدنيا الذين تشبثوا بها وتركوا الآخرة، وآثروا الذي يفنى على الذي يبقى، فقال تعالى: {كلا بل تحبون العاجلة، وتذرون الآخرة}. وبيّن النبي الكريم أن زاد المسافر إلى ربه هو التقلل من الدنيا، ثم كشف لنا عن حقارتها، حيث مثلها بالشاة الميّتة التي لا تساوي شيئا، فقال: “والله لا الدنيا أهون على الله من هذه عليكم”، وعند الترمذي: “لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء”.
فإذا شق الزهد على المسافر واشتد عليه الأمر الذي يسافر به إلى ربه وخطفته الدنيا بشهواتها، فعليه أن يتذكر كيف كانت حياة نبيه صلّى الله عليه وسلم، فلقد كانت حياته من الزهد في الدنيا والتقلل منها ما يكون نبراسا لكل مسافر إلى ربه، ففي الصحيح عن عمر رضي الله عنه قال: “لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يظل اليوم يتلوى لا يجد من الدقل، التمر الرديء، ما يملأ بطنه”. وعند البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “ما شبع آل محمد صلّى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم”.
وهكذا كان حال صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم من بعده، بعدما فتحت الأمصار، يقومون الليل ويتزهدون في هذه الدنيا، فقد كان علي رضي الله عنه يقوم الليل كله، ثم ينظر إلى الدنيا ومتعتها وزينتها وزخارفها، ويقبض على لحيته ويبكي ويقول: يا دنيا، غري غيري، لقد طلقتك ثلاثا.
فيا أيها الراحل إلى ربه، إن أردت الوصول إلى الله، فكن زاهدا في الدنيا، ويا أيها المسافر إلى ربه، اعلم أن زاد المسافر الهمة العالية والاجتهاد العظيم، فالسائر إلى ربه يبذل الجهد ويستفرغ الطاقة في سبيل إرضاء ربه، فهو صاحب همة عالية، يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل الغاية المأمولة؛ لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن اللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة، ولله در أبي الطيب المتنبي حين قال:
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال
واعلم أخي المسافر أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وبحسب الجد والاجتهاد وتحمّل المشقة، تكون اللذة والفرحة، فمن جدّ وجد. لقد كان سيد المجتهدين يجد ويجتهد في طلب الله ورضوانه، فكان يقوم الليل كله إلا قليلا حتى تورمت قدماه، ويقول: “أفلا أكون عبدا شكورا”، واجتهد أصحابه فكانوا بررة وأتقى من سافر إلى ربه، سئل نافع: ما كان يصنع ابن عمر في منزله؟ فقال: الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما. واجتهد أبو موسى الأشعري اجتهادا عظيما، ولما كان على فراش الموت قالوا له: يا أبا موسى، ارفق بنفسك، فقال: إن الخيل إذا قاربت المنتهى اجتهدت اجتهادا كبيرا. فلم يزل رضي الله عنه على هذا الحال من الاجتهاد حتى رحل إلى جوار ربه.. والله ولي التوفيق.
إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية – الجزائر