38serv

+ -

 أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: “كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصدّه ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”.

خباب رضي الله عنه من أكثر الصحب الكرام تعرّضا للتعذيب والإيذاء، ومع ذلك، فإن عزة المؤمن هي التي جعلته يقف شامخا عزيزا أمام كفار قريش، يصلي ركعتين قبل مقتله، ويقول: والله لولا أن تظنوا إنما طولت جزعا من القتل، لاستكثرت من الصلاة.

عزة المؤمن هي التي جعلت المستضعفين من المسلمين في مكة، وهم يعذبون أشدّ العذاب، ومع ذلك صبروا، من أمثال عمار بن ياسر وأبوه وأمه وبلال وغيرهم، فقد كانوا ثابتين حتى عجز عنهم صناديد قريش، وأصابتهم الهزيمة النفسية والذل بسبب يأسهم من صدّهم عن دينهم وعقيدتهم.

عزة المؤمن هي التي جعلت أصحاب الأخدود لا يبالون بنار الملك العظيمة التي قد ملأت الأخاديد في الطرقات، فيُرمى بعضهم أمام بعض، ويحرق بعضهم أمام بعض، وهم في ثبات على الدين والإيمان، حتى تأتي امرأة ومعها طفل صغير، فتقاعست عن الوقوع فيها خوفا على صغيرها، فقال لها الغلام: يا أماه، اصبري فإنك على الحق: {قُتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد}.

عزة المؤمن هي التي جعلت الإمام أحمد رحمه الله يقف موقف الجبال الراسخات، بعد أن جلد جلدا لا يتحمّله البعير في فتنة القول بخَلق القرآن، مع ما تعرّض له من السجن، حتى أصبح إماما لأهل السنة والجماعة. وعزة المسلم جعلت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول وهو في سجن القلعة بدمشق: ماذا يفعل بي أعدائي، إن سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة.

بعد أن حطت غزوة أحد رحالها، وكشف الغبار أطلالها، وتبيّن أن المعصوم قد شجت جبهته، وكسرت رباعيته، وجرحت شفته، وسبعون من خيرة الصحب قد مُثل بهم، فقطعت منهم الأنوف والآذان وبقرت منهم البطون، بينهم سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، ونرى من الرماة من ترك مكانه وعصى، ونرى من الجنود من ترك أرض المعركة وتولى، ومن ثبت من الصحابة منهم من استشهد ومنهم من جرح، فكان يوما على المسلمين عظيما، حتى قال قائد المشركين يومئذ أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال. ومع ذلك، فإن عزة الإسلام جعلت النبي يطلب من الصحب الكرام أن يردوا على أبي سفيان حين قال: أعل هبل، قال المعصوم: “ألا تجيبوه؟”، قالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ قال: “قولوا: الله أعلى وأجلّ”، فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ألا تجيبوه؟”، قال: قالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ قال: “قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم”.

اليوم، نرى العزة في أرض غزة، نراها في عين ذلك الشيخ الكبير الذي يرفع يديه إلى السماء ومع شدّة البلاء وطول السنين، لا يزال يدعو بقلب يملأه اليقين، ونرى العزة في صمود أولئك الشباب أمام الأخطار والأهوال، في إنقاذهم للمصابين من كبار ونساء وأطفال، ونرى العزة في مشاعر تلك الأم التي تودع أبناءها شهيدا بعد الآخر بكلمات الثبات والزغاريد، وأما ذلك الأب الذي أحضر ابنه المصاب إلى المستشفى، فطمأنه الطبيب أنه بعد أيام سيشفى، فلما جاء اليوم التالي لم يجد ابنه ولا الطبيب ولا المستشفى، ولسان حال العزة في قلبه: إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا على فراقكم لمحزونون.. والله ولي التوفيق.

*إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية – الجزائر1