الضابط الثاني أن تعود حرية التصرف بالضرر على الغير، دون قصد من المتصرف بإضرار غيره. لقد سبق أن بيّنا القسم الأول في المقال السابق، والآن نبيّن القسم الثاني بإذن الله.
القسم الثاني أن لا تقتصر آثار حرية التصرف على المتصرف، ويلزم عنها ضرر على غيره من الناس، فهذه ينظر فيها من وجهين؛ من حيث قصد المتصرف لهذا الضرر وعدم قصده لذلك، ومن حيث عموم الضرر وخصوصه، وكذا من حيث دخول المتصرف تحت العموم المتضرر وعدم دخوله، كما ينظر فيه من حيث قوة المفسدة التي يفضي إليها ذلك التصرف، وهي خمس جهات، سأبيّنها فيما يأتي بالتفصيل إن شاء الله.
الجهة الأولى: أن لا يقصد المتصرف من حرية تصرفه إلحاق ضرر بغيره من الناس، لكنه يلزم من تصرفه إضرار بالعموم، ولو منع من تصرفه للزم عن ذلك المنع إضرار به، فالنظر في هذه المسألة يكون من جهة جبر الضرر المترتب على منعه من تصرفه، وعدم جبره. والأصل هنا جبر الضرر الذي يلحق المتصرف بمنعه من حرية تصرفه ويمنع من تصرفه، وذلك رعاية للعموم؛ لأن دفع الضرر العام واعتباره أولى من رعاية الضرر الخاص، كما أن رعاية المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة كما هو مقرر في علم الأصول وعلم المقاصد، ومثاله ما عمله السلف الصالح بتضمين الصناع، مع أن الأصل فيهم الأمانة، وبناء على هذا، وجب رعاية مصلحة العموم على مصلحة الخصوص، بحيث لا تلحقهم مضرة.
الجهة الثانية: أن لا يقصد المتصرف من حرية تصرفه إلحاق ضرر بغيره من الناس، ولكن يلزم عنه ضرر لغيره من جهة الخصوص، كالإضرار بشخص آخر مثله، ولو منع المتصرف من حرية تصرفه للزمه ضرر بسبب هذا المنع، وذلك لاحتياجه إلى هذا التصرف. والنظر في هذه المسألة يعود لإثبات الحظوظ واعتبارها، وذلك كدفع الشخص مظلمة عن نفسه، هو في يقين من وقوعها عليه، وفي شك من وقوعها على غيره إذا دفعها عنه، ومثل هذا حق الشخص ثابت شرعا، ولا مخالفة فيه، إلا مع إسقاط لحقه، وذلك لا يلزمه، بل قد يتعيّن عليه حق نفسه في الضروريات، فلا يكون له خيرة في إسقاط حقه، لأنه من حقه على بيّنة، ومن حق غيره على ظن وشك، وذلك في دفع الضرر واضح، وكذلك في جلب المصلحة إن كان عدمها يضر به.
الجهة الثالثة: أن لا يقصد المتصرف من حرية تصرفه الإضرار بغيره، ولكن يلزم من تصرفه إضرار بغيره على وجه الخصوص، فيفضي إلى مفسدة قطعية في تلك الجهة، ولو منع المتصرف من حرية تصرفه لا يتضرر بتركه، وهذا له نظران كما يرى ذلك الإمام الشاطبي: النظر الأول: إذا كان المتصرف قد قصد تصرفا جائزا أن يقصد شرعا مع التجرد من نيّة الإضرار بأحد، مع عدم علمه بلزوم الضرر لغيره، فهو من هذه الجهة جائز لا محظور فيه. النظر الثاني: لو علم المتصرف بلزوم الضرر لغيره من حرية تصرفه الذي قصده مع عدم استضراره هو بتركه ذلك التصرف، فإنه من هذه الجهة مظنة لقصد الإضرار بغيره. وبناء عليه، فإن المتصرف ممنوع من حرية تصرفه، وأنه لا يجوز له الدخول فيه لعلمه بالمضرة القطعية التي تترتب على تصرفه مع عدم التضرر بتركه.
الجهة الرابعة: أن لا يقصد المتصرف من حرية تصرفه الإضرار بغيره، ولكن يلزم من تصرفه إضرار بالغير فيفضي فيهم إلى مفسدة غالبة، ولو منع المتصرف من تصرفه لم يتضرر بتركه، فالمفسدة هنا جارية مجرى الظن، والنظر فيها بين أمرين: إما أن يلحق الظن بالعلم، فتلحق المفسدة الغالبة بالمفسدة القطعية، وتأخذ أحكامها، أو لا تلحق بها لجواز تخلف تلك المفسدة الغالبة عن المصلحة المغلوبة، وهو نادر الوقوع. والراجح في هذه المسألة هو إلحاق المفسدة الغالبة بالمفسدة القطعية، فتأخذ أحكامها.
الجهة الخامسة: أن لا يقصد المتصرف من حرية تصرفه الإضرار بغيره، ولكن يلزم من تصرفه إضرار بالغير وتلحقهم به مفسدة كثيرة لا غالبة ولا نادرة، ولو منع من ذلك العمل لم يتضرر. ومذهب الإمام مالك في هذه المسألة المنع من التصرف وعدم جواز الدخول في العمل، واستدل على ذلك من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: كثرة النصوص الواردة بالمنع في هذا القسم، منها قوله عليه الصلاة والسلام: “من أشرّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ينشر سرها”، وهذا يعود لكثرة الفساد الذي يترتب على إفشاء ذلك السر، وكذلك نهيه عليه الصلاة والسلام عن الخليطين، وعن الانتباذ في الأوعية التي لا يعلم تخمير النبيذ فيها، وعلّق الشاطبي قائلا: “يعني أن النفوس لا تقف عند الحد المباح، ووقوع المفسدة في مثل هذه الأمور ليست بغالبة في العادة، وإن كثر وقوعها”. الوجه الثاني: عدّ الإمام مالك هذا النوع داخلا ضمن باب سد الذرائع وهذا بناء على كثرة القصد وقوعا، وإن كان القصد لا ينضبط في نفسه؛ لأنه من الأمور الباطنة الخفية التي لا سبيل لقياسها، إلا أن له جهة يدرك بها هي كثرة الوقوع في الوجود، أو مظنة ذلك الوقوع، وكما عددنا جهة المظنة مع علمنا بصحة التخلف وإمكانية وقوعه، وكذلك تعدّ الكثرة لكونها مجالا للقصد. وما ذهب إليه الإمام مالك ومن تبعه، يعدّ الأحوط للدين والأسلم لأمن البلاد والعباد.
*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر