+ -

 على الرغم من تفويض الشريعة سلطات واسعة لولي الأمر، إلا أنها قيّدت تدخله في باب الحريات بما يدفع المفاسد ويجلب المصالح، دون زيادة على ذلك، حفاظا على الأصل الذي ولد عليه الإنسان وفطر عليه، ألا وهو “الإسلام والحرية”. لذلك، كان موقف تقييد حرية التصرف موقفا صعبا وحرجا ودقيقا على المشرع غير المعصوم، فواجب ولي الأمر التريث في هذا المقام وعدم التسرع؛ لأن ما زاد على ما يقتضيه درء المفاسد وجلب المصالح من تقييد حرية التصرف عموما يعدّ ظلما، والظلم في الشريعة مدفوع ومرفوع، كما أشار إلى ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما رواه مالك في الموطأ، أنه لما حَمى حِمى الربذة، قال لمولاه هاني الهمداني الذي أولاه على الحمى: (وأيم الله، إنهم ليرون أني قد ظلمتهم، وإنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده، لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا).

ومما يندرج في هذا المقصد أنه ليس لولي الأمر منع أصحاب الرأي من إبداء آرائهم ولو كانت موجهة للحاكم نفسه، إذا كانت للنصح والتوجيه والإرشاد، ولحماية مصالح البلاد وسيادتها، بل الأعظم من ذلك أن يطلب ولي الأمر نفسه النصيحة من أصحاب الرأي في دولته، وله في أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أسوة في ذلك، حيث قال رضي الله عنه لأصحابه: “من رأى منكم في اعوجاجا فليقوّمني”. ولعل هذه القولة هي التي جعلت المفكر الفرنسي غوستاف لوبون يقول: (إن العرب أول من علّم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين).

إلا أن هذه الحرية في التعبير تكون مكفولة ومصونة من جانب الشريعة، وغير معتدى عليها من قبل ولي الأمر إذا التزمت بالضوابط والحدود المقرّرة شرعا والمتعارف عليها عرفا مُحكما، فلو ترتب على إطلاق حرية الرأي مساس بالضروريات الست –الدين والنفس والعقل والنسب والمال والحرية– أو تعريضها للضرر، أو أدت إلى حدوث اختلال في أمن العباد ووحدة البلاد، فإن تلك الحرية واجبة التقييد ويلزم ولي الأمر القيام بذلك.

فالخلفاء الراشدون لم يكونوا يمنعون أحدا من أن يقول رأيه في أمور الدولة وسياستها، وإنما كانوا يعتبرون ذلك مخالفة ويقاومونها بكل الوسائل إذا تحول ذلك الرأي إلى عنف يمس الضروريات الست للناس ويعرض أمن البلاد للخطر، وهو ما نلمسه جليا في تصرف أمير المؤمنين الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين خرج عليه الخوارج، وكانوا ثمانية آلاف، بعد قبوله تحكيم الحكمين في النزاع الذي قام بينه وبين معاوية، فلم يعمد إلى استعمال القوة معهم، وإنما استخدم الفكر، والرأي، والحوار الهادف، إذ بعث إليهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ليناظرهم ويحاورهم، فرجع منهم أربعة آلاف، فبعث علي إلى من تبقى منهم: (أن ارجعوا، فأبوا، فأرسل إليهم: كونوا حيث شئتم، وبيننا وبينكم ألا تسفكوا دما حراما، ولا تقطعوا سبيلا، ولا تظلموا أحدا، فإن فعلتم نبذتُ الحرب معكم... وقال لهم: لا نبدأ بقتال ما لم تحدثوا فسادا). إن هذا التصرف العالي في التعامل مع حرية الناس في إبداء آرائهم لم يكن فعل الخلفاء الراشدين فحسب؛ بل هو منهج سار عليه الكثير من ولاة الأمور، فهؤلاء خلفاء بني العباس لم يعمدوا يوما إلى إرغام الكتاب والمؤرخين على أن يقولوا أو يكتبوا دائما ما يحب الخلفاء أن يقال أو يكتب، ولذلك استطاع كثير منهم إبداء رأيه في كل الحقائق العلمية والواقعية بما يراه في حرية تامّة.

كما أنه ليس من حق الناس أيضا تحت غطاء حرية الرأي والفعل، أن يتخلوا عن الفروض الدينية أو يتحللوا من الآداب والأخلاق المرعية، فهنا يجب على الوازع السلطاني أن يتدخل بتقييد تلك الحريات وإعادة الأمور إلى نصابها؛ لأن هناك من النفوس من تستهويه الأوضاع غير الطبيعية فينساق وراءها ويتخطى حدود الحرية المعلومة والمكفولة له، فهذا يحتاج إلى رادع سلطاني يرده إلى جادة الطريق، ولهذا قال الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه: (إن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن).

إلا أن الشريعة الإسلامية تسعى دائما إلى تمكين الوازع الديني من النفوس، كما تهدف إلى قطع كل الأسباب المؤدية إلى استدعاء الوازع السلطاني إلا في حالة الضرورة، حتى تحفظ للمكلفين حريتهم وكرامتهم، لأن الوازع السلطاني عند تدخله واستخدامه ما هو مفوض فيه شرعا يكون من توابعه إهدار بعض الحريات ومصادرتها، وإهانة بعض الكرامات وإسقاطها، وذلك تحت ضغوط ظروف معيّنة وما تستدعيه الواقعة من الاحتياط، حفاظا على المصلحة العامة، فتفوت في جانبها بعض المصالح الخاصة، وإن كانت سليمة من حيث المشروعية.
*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر