في هذا اللقاء الفكري الدسم مع البروفيسور بومدين بوزيد، مدير ديوان عمادة جامع الجزائر، والأمين العام السابق للمجلس الإسلامي الأعلى، كما شغل منصب خبير لدى مؤسسات ومراكز بحثية، نتناول معه قضايا تتعلق بالخصوصية المذهبية والعقدية، وكيف يرى المهام الحضارية لجامع الجزائر الذي تم تدشينه من طرف رئيس الجمهورية نهاية فيفري وشهدت الجمع الأولى إقبالا من المصلين منقطع النظير، في انتظار أن تستقبل هياكله المدمجة الطلبة والباحثين والمواطنين.
هل يمكن أن تشرح لنا باقتضاب مفهومك لـ"المرجعية"؟
أفضّل عبارة "الخصوصية العَقَدية والمذهبية"، أو بتعبير مختصر "الخصوصية الدينية"، وهي تشير هنا إلى الانتماء الأشعري في الرؤية العَقَدية وإتباع مذهب الإمام مالك بن أنس في الفقه. أما التصوف، فهو سلوك وإحسان وقيم إنسانية قبل أن يصبح مؤسسة اجتماعية تسمى "الزاوية" أو "الطريقة"، وهو مظهر مؤسساتي متأخر في الظهور، أي تقريبا منذ القرن الثاني عشر ميلادي، وبالتالي هذا العنصر الأخير من الثلاثية الموروثة مرتبط بالاعتقاد والمذهب في تنوعه وتطوره الذي لم يكن حوله التوافق الشعبي والعلمي، وهو يحتاج إلى مراجعة ليس هذا مجالها. إضافة إلى تلك العناصر، هناك عنصر تاريخي تأسيسي في تشكيل الأمة الجزائرية في القرن الثاني الهجري، وهو "المذهب الإباضي" الذي أسس دولة وحافظ على انتمائه المتميز والاجتماعي، وبرزت في تاريخه منارات اجتهادية أثرت على العالم الإسلامي.
هل لك أن تفصّل الفكرة؟
انتقل إلينا مفهوم "المرجعية" للدلالة على "الخصوصية المذهبية والدينية"، أي الانتماء الخاص بنا في المذهب والعقيدة في مقابل التيارات الشيعية والوهابية والنحل الأخرى. وفي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، استخدم مفهوم "الأصالة"، وكان عنوانا لمجلة وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية في مقابل "التيارات اليسارية والتحديثية"، رغم أن المجلة كانت فضاء مفتوحا لباحثين من مختلف المشارب، وعددها الأول تصدرت صورة "يوغرطة" غلاف المجلة، وموضوعها الأساسي فلسفة موسيقى بيتهوفن، كما نشر المرحوم بلقاسم نايت بلقاسم أبحاثا لمستشرقين ومحمد أركون ومالك بن نبي وعبد العزيز الحبابي من المغرب، ومحمد عمارة من مصر، وكتاب شيعة ساهموا فيها أيضا. لذلك، كانت قوانين تسيير الشأن الديني التي صدرت في التسعينيات من القرن الماضي استباقية في تحصين منبر المسجد من أن يتحول إلى "منبر سياسي" أو "منبر دعوة للعنف والكراهية والقتل"، وهو ما عملت وزارة الشؤون الدينية منذ بداية الألفية الجديدة على تحريره من السياسة ودعوات التطرف، سواء بمجموعة قوانين أو توجيهات وتعليمات مركزية. هكذا جرى تداول "مفهوم المرجعية" ليُحيل على ثلاثية تاريخية: "المالكية في الفقه (أتباع مذهب مالك بن أنس عالم المدينة المنورة، ت:93هـ-795م)، والأشعرية في العقيدة (أبو الحسن الأشعري، ت:324هـ-936م)، والجُنيدية/الشاذلية في السلوك (التصوف) أي الأخلاق، والشاذلية (أبو الحسن الشاذلي 656هـ-1258م) هي التي تفرعت عنها الطرق الصوفية المنتشرة في الجزائر وشمال إفريقيا وعموم البلدان الإفريقية، إضافة إلى القادرية نسبة لعبد القادر الجيلاني (521هـ-1166م). وهي ثلاثية تتحدث من حين لآخر عن "الإباضية" كمذهب له أتباعه وتاريخه منذ عهد "الدولة الرستمية" (ق 2هـ)، كما عرفت الجزائر المذهب الحنفي (أتباع أبو حنيفة النعمان) في عهد الأغلبين (الدولة الأغلبية القرن الثاني الهجري) أو زمن حكم الأتراك منذ القرن السادس عشر ميلادي إلى زمن الاحتلال الفرنسي، وكانت لهم مساجدهم -أي الأحناف- مثل الجامع الجديد بالعاصمة وجامع البليدة والمدية، وكان في هذا العهد مفتيان (مفتي المالكية ومفتي الحنفية)، واستمر المنصبان الدينيان زمن الاستعمار الفرنسي. يمكن القول إن "المرجعية الدينية الوطنية" من حيث الوقائع التاريخية عرفت تنوعا مذهبيا وعقديا، دون أن نغفل طبعا المذهب الإسماعيلي "العُبيدي" زمن الدولة الفاطمية بالجزائر وتونس في القرن الرابع الهجري، واستمر المذهب رسميا سبعين عاما في حين بقي المذهب على المستوى الشعبي مالكيا، أي كان الغالب دوما "السنية-المالكية" لعوامل تاريخية يعرض لبعضها عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته الشهيرة، منها "التبعية السياسية لدول شمال إفريقيا للأمويين الذين كانوا يحكمون الأندلس"، وقد ألّف المنتمون لهذه المرجعيات مصنفاتهم زمن الاستقرار السياسي والدعم، سواء في زمن حكم الأغالبة أو المرابطين والموحدين ثم الزّيانيين في تلمسان. وقد تنبه الفرنسيون بعد احتلالهم الجزائر إلى ضرورة ترجمة فقه الشيخ "خليل"، خصوصا ما تعلق بفصول البيوع والمعاملات، كون المجتمع الأهلي كان خاضعا كليا لهذه القوانين التي لخصها الشيخ خليل في "متنه" الذي كتبت حوله عشرات الشروح، وإلى اليوم يُدرس في مساجد الجمهورية كمصنف مرجعي أساسي.
كيف ترى أن يقوم "جامع الجزائر" بدور الحامي لهذه الخصوصية؟
هذه "الخصوصية العَقدية والمذهبية" تحتاج إلى مؤسسة روحية وعلمية تكوينية مثل "جامع الجزائر"، فقد حافظت مؤسسات رمزية إشعاعية حضارية على الإسلام في مراحل تاريخية، وكانت مصنعا لإنتاج النخب الدينية وتطوير الخطاب المسجدي، مثل الأزهر والنجف والزيتونة والقرويين، والأمل يحذو الدولة ونخبها وشعبها اليوم أن يكون "جامع الجزائر" جامعا بين العلوم الدينية والعلوم العصرية، جامعا بين النقل والعقل، بين التقليد والحداثة، ليس بالصيغة التلفيقية الاتباعية ولكن بالاجتهاد، وأن ندخل نهضة حضارية حَلُم بها ابن باديس ومالك بن نبي رحمهما الله، وقاوم الأمير عبد القادر والحداد وبوعمامة من أجل ذلك، لكن شرط أن لا يكون "جامع الجزائر" امتدادا وتقليدا لمؤسسات قائمة اليوم، يشهد بعضها ضعفا وعجزا في القدرة على التغيير والتطور. هذا أول الشرط في حماية "الخصوصيّة الدينية" من الجمود والتكرار، وأن تكون نصوصا مغلقة بل بعث روحها ومنهجيتها وتطوير ذلك، فالبروتستانتية، مثلا، كانت تطويرا للكاثوليكية وروحا للرأسمالية التي ظهرت في أوروبا، كانت الاستجابة للعصر عبر التأويل الديني الذي شكل منهجا علميا ليس فقط في الدين، ولكن في التاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية. طبعا، أنا أستشهد هنا فقط لنبرز أن الاجتهاد الديني هو شرط حماية الدين وليس خروجا عنه كما يخشى بعض من ذلك. إلى جانب هذا المطلب العلمي-المنهجي، هناك مسألة أخرى غاية في الأهمية، وهي كون "جامع الجزائر" له السمة السياحية، وكلمة "سياحة" هنا ليس بالمعنى المبتذل الشائع، ولكنها ثقافة وحماية للموروث وتطوير له، فالخصوصية الدينية للجزائريين حين يتم الاهتمام بها هو "تميز في الشكل والروح"، ويكون ضمن الفضاء السياحي أيضا مثل "التنوع النغمي في الأذان"، و"القراءات الجماعية للقرآن الكريم والأذكار"، و"الخطوط الجمالية المغاربية"، و"الألبسة الجزائرية التي ارتبطت بالشعائر"، إلى جانب قراءة ورش وبعض الخصوصيات الأخرى في التعبد...إلخ. ومن هنا، يتلازم جمال العمارة للمسجد مع جمال الخصوصية الثقافية وجمال الروح، بهذا تكون "الخصوصية الدينية" عمارة جمالية ثقافية-سياحية تحتاج للإبداع والتكوين فيها. أما على مستوى التكوين العلمي، فأتصوّر أننا نحتاج إلى الجمع بين ما ورثناه من تدريس النصوص التي تعتبر سندا لتراثنا المغاربي والعلوم المعاصرة مع منهجية تمكّن الشباب، اليوم، من الشعور أن هذه النصوص وكأنها منهم من عصرهم. طبعا، هذا يحتاج إلى عمل مخبري-بيداغوجي يبتعد عن التسرع والتعصب.
ماذا تنتظر إفريقيا من "جامع الجزائر"؟
لقد كان أكثر الحضور من المفتين والعلماء الأفارقة في افتتاح جامع الجزائر، وأملنا كبير في أن نعيد لعلاقتنا الإفريقية وهَجها في تكوين الأئمة والنخب الدينية، خصوصا في ظل الأزمة الأمنية والتغير السوسيو-الاقتصادي الجديد في دول الساحل والمغرب العربي، ويكون بناء هذه العلاقة استثمارا للوحدة المذهبية الدينية التي تجمعنا ولانتماء بعض الإفريقيين للطرق الصوفية، مثل التيجانية والقادرية الكنتية والسنوسية والرحمانية والطيبية، هذا التاريخ المشترك عامل أساسي في الاهتمام بالفضاء الديني الإفريقي وإعداد قيادات دينية تلعب دورا في بلدانها، سواء في الوظائف الروحية والاجتماعية ونشر قيم الاعتدال والوسطية، وأقترح هنا إعادة الاهتمام طبعا وتدريسا لنصوص دينية إفريقية كانت ومازالت في بعض البلدان مرجعا لهم، وأذكر هنا بعض الدول إفريقية يجري الآن تحويلها كمختبر ديني رسميا وشعبيا بتمويل أجنبي، ما يهدّد انسجامها الديني والثقافي واستقرارها. طبعا، نحن لا ننافس ذلك،أي ما ارتبط بإستراتيجية سياسية، ولكن لننبه أن عمقنا الإفريقي منذ الإمام محمد بن عبد الكريم المغيلي والمختار الكنتي والشيخ التيجاني، وطبيعة ثورتنا وحدودنا الجغرافية الواسعة مع هذه البلدان يقتضي تفكيرا عميقا في وضع خطة منهجية لما أشرت إليه يقوم بها "جامع الجزائر".
وماذا عن عالمية أهداف "جامع الجزائر"؟
جامع الجزائر من الناحية المعمارية أصيل وحديث، وهذه خصوصية نشكر كل الذين ساهموا فيها، وستكون منارته ذات بعد عالمي، بما تحفل به من متاحف وما يعطيه البعد البصري في قمته من كون العالم واحدا مختصرا في بحر العاصمة وعماراتها وأحيائها، ويمكن تطوير هذه المتعة البصرية-الجمالية بتقنيات جديدة. أما الرباعية المعمارية المادية للمنارة ولقاعة الصلاة، فعلى القائمين على "جامع الجزائر" بعمارة ذلك روحيا وثقافيا ورمزيا والآية القرآنية {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة}، يعمرها بالعبادة والذكر والوظائف الرباعية التي أقصد بها "الاهتمام بالغرب في تكوين قيادات دينية تستطيع أن تتكيّف مع المواطنة الغربية وطبيعة مجتمعاتها، وإعداد مستعربين يتخصصون في الحضارة الإسلامية من جنسيات فرنسية وأمريكية وألمانية وغيرها، والرد علميا وبالحجة والبرهان على الإسلاموفوبيا والعنصرية والكراهية، وفتح حوار ديني وفلسفي مع تيارات الحداثة وما بعد الحداثة في الغرب"، الركن الأول من الرباعية رباعي في عناصره أيضا، الركن الثاني هو الجنوب الإفريقي الذي تحدثت عنه سالفا، والركن الثالث هو التعاون المغاربي واستثمار ما قدمه أشقاؤنا من اجتهاد والتعاون معهم، الركن الرّابع هو البعد المشرقي العربي-الإسلامي الذي نحن جزء منه حضاريا. وهنا، لا نفرق بين ما هو سني وما هو شيعي، بل نستثمر جامع الجزائر في إعطاء جرعات جديدة للتقريب بين المذاهب الإسلامية، والمساهمة في الصلح وحل النزاعات في الشرق-الأوسطية التي تتخذ من الدين عامل صراع وخلاف، كما يكون التعاون مع هيئات تسعى نحو الوسطية والاعتدال، وهنا أيضا يحضرني ثراء تجربة بعض البلدان الإسلامية، مثل تركيا وماليزيا.