38serv

+ -

إن الطب في صدر الإسلام لم يختلف كثيرا عما كان عليه في الجاهلية، وقد عاش بعض أطباء الجاهلية إلى أيام الرسول صلّى الله عليه وسلم، أمثال الحارث بن كلِّدة وابنه النضر، ورفيدة، وأم عطية الأنصارية.

ويرى لوكثير عند حديثه عن تاريخ الطب العربي في كتابه “تاريخ طب العرب”، أن الحارث بن كلِّدة هو أول رجل استحق عند العرب لقب “الطبيب”، وأول من جمع بين تطبيق الطب وبين النظريات التي يرتكز عليها هذا العلم. وقد درس ابن كلَّدة الطب بفارس في مدينة جند ياسبور على يد جماعة السريان النسطوريين الذين فروا من بيزنطة إلى مدينة جند ياسبور بسبب الاضطهاد المسيحي هناك في القرن الخامس للميلاد، حيث نهضوا بمدرسة هذه الأخيرة، بما نقلوه إليها من علوم مشاهير اليونان، أمثال بقراط وغالينوس بعدما ترجموها إلى السريانية.

وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته أن الطب النبوي من جنس الطب الذي عرفه العرب في الجاهلية -وفي البادية على الأخص- وليس من الوحي، وهذا الطب يصيب حينا ولا يصيب حينا آخر. إن هذه العبارة من العلاّمة ابن خلدون تستوقف الفكر والنظر، وإن كنا متفقين معه في أن الوحي لم يأتي من أجل الطب، إلا أننا مقتنعين بأن الطب النبوي قد استفاد من الوحي استفادة جليلة، ويكفي التدليل على ذلك نطقه صلّى الله عليه وسلم بـ300 حديث في الأدواء والأدوية، وما أحاديثه إلا وحي يوحى.

ولقد رأى خلفاء الدولة الإسلامية أنه لا يليق بأمة في مقام أمة الإسلام أن تُغْفِلَ هذا العلم وهذه الصنعة، فاستقدموا الخبراء وأرسلوا البعثات إلى مواطن العلم الذي يريدون جلبه واقتباسه. وكان الخبراء الذين استقدمهم العباسيون هم آل يخنيشوع، وكان من أشهر المبعوثين من العرب حنا بن ماسويه، حيث رحل إلى جند ياسبور وتعلم الطب على يد أهلها.

كما أولى خلفاء بني العباس عناية خاصة لجمع المخطوطات الطبية وغيرها، الموجودة في مختلف البلدان، فجمعوا المخطوطات اليونانية والفارسية والهندية، وبذلك نشطت الحركة العلمية نشاطا كبيرا، وبخاصة في مجال العلوم الطبية، ويظهر الحرص الشديد لخلفاء بني العباس على هذا المسار العلمي في جعل الحصول على المخطوطات شرطا من شروط الصلح أحيانا.

وكان لوجود الأطباء الكبار في بغداد وغيرها من الحظائر الإسلامية، مثل آل يخنيشوع وحنا بن ماسويه، أثرا عظيما في تقدم العلوم الطبية. وقد نتج عن هذا التواجد الكبير للأطباء تأسيس المدارس الطبية التي تعتمد على المنهجين النظري والعملي التطبيقي، وقد لعبت هذه المدارس دورا بارزا في وضع الأساس المكين للطب عند العرب، فقد ساهم كثير من الأطباء العرب في هذا النشاط مثل حنين بن إسحاق (ت: 264هـ)، وثابت بن قُرَّة الحرَّاني (ت: 288هـ)، وقسط بن لوقا البعلبكي (ت: 288هـ).

وقد كان لحركة الترجمة دور أساسي في هذا التطور فهي لم تتوقف عند حدّ معيّن، بل استمرت حتى بلغت أوج عظمتها في منتصف القرن الرابع الهجري، وأصبحت أساسا متينا لحركة التأليف الواسعة التي شهدت تطورا عظيما على يد الأطباء العرب، ويدل على هذا أمر الخليفة المأمون لحنين بن إسحاق بترجمة كل الكتب الطبية الشهيرة آنذاك، وبخاصة مؤلفات أرسطاليس وأعطاه كثيرا من الأموال والعطايا.

ولم يكن هذا الازدهار الطبي الهائل خاصا بنوع معيّن من التخصصات الطبية، بل كان عاما وشاملا، حيث شمل علم الجراحة وعلم التشريح، وطب النساء والأطفال، وطب العيون والكحالة، وطب الأسنان ونظرية الأخلاط، والعلاج التشخيصي، والخدمات الطبية والصيدلية وغيرها.

قال الدكتور إدوارد جين براون في كتابه، وهو يتحدث عن أهمية الطب العربي وموقعه من التجربة العالمية في هذا الباب: “وأهميته لا تعتمد على أصالته بل على كونه حلقة الوصل بين عصر اليونان وعصر النهضة في أوروبا، كما أنه كان المورد الوحيد للمعرفة في أوروبا خلال العصور الوسطى المظلمة”. وقال كودار في كتابه “تاريخ المغرب”، إنه إذا كان العرب قد تفوّقوا تفوّقا بارزا على اللاتين في عهد من العهود، فإن ذلك لا يمكن أن يكون إلا في الحساب والطب والجغرافيا والعلوم.

رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر