إنه من المعلوم بالضرورة من الدين أن شريعة الإسلام جاءت شريعة عامة ودائمة؛ فهي عامة من جهة أنها داعية جميع البشر إلى اتباعها، وامتثال أحكامها وتعاليمها، لأنها لما كانت خاتمة الشرائع استلزم ذلك عمومها لسائر أقطار المعمورة، ودائمة في سائر أزمنة هذا العالم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فعموم الشريعة وديمومتها معلوم بالضرورة، فلا حاجة إلى الإطالة فيه لأننا لسنا في مقام إثباته على منكريه، وإنما الغرض من طرق هذا الموضوع هو النظر فيما يترتب عليه.
فقد أراد الله بحكمته أن يكون الإسلام آخر الأديان التي خاطب الله بها عباده، فتعيَّن أن يكون الأصل الذي ينبني عليه هو وصف مشترك بين سائر البشر على تنوع ألسنتهم وأجناسهم واختلاف عوائدهم، وما استقر في نفوسهم، ومرتاضة عليه العقول السليمة منهم، ألا وهو وصف الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فهي الوصف الأعظم في جانب الشريعة والصفة الطبيعية التي جبل عليها الخلق في جانب المكلفين، حتى تكون أحكام الشريعة مقبولة عند أهل الآراء الراجحة من الناس الذين يستطيعون فهم مغزاها، فيتقبلوا ما يأتيهم منها بنفوس مطمئنة وصدور منثلجة، فيتبعوها دون تردد ولا انقطاع، وحتى يتسنى لأرفعهم قدرا في الفهم محاذاة نظائرها وتفريعات فروعها، وحتى يكون تلقي بقية طبقات الأمة الذين لم يبلغوا مستوى أهل الآراء الراجحة إياها تلقيا عن طيب نفس، ويسهل امتثالهم لما يؤمرون به منها.
ومن أعظم ما يقتضيه عموم الشريعة أن تكون أحكامها التي جاءت بها سواء لسائر الأمم المتبعين لها بقدر الاستطاعة، لأن التماثل في إجراء الأحكام والقوانين عون على حصول الوحدة الاجتماعية في الأمة. ولهذه الحكمة والخصوصية، جعل الله هذه الشريعة مبنية على اعتبار الحكم والعلل التي هي من مدركات العقول لا تختلف باختلاف الأمم والعوائد.وقد أجمع علماء الإسلام في سائر العصور، إلا الذين لا يعتد بمخالفتهم، على أن علماء الأمة مأمورون بالاعتبار في أحكام الشريعة، والاستنباط منها، وجعلوا من أدلة ذلك قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} التغابن:16، وقوله: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} الحشر:2، وهما دليلان خطابيان، ويعززهما الإجماع وعمل الصحابة وعلماء الأمة في سائر العصور.
وبناء عليه، فإن نظام التشريع في الإسلام جاء شاملا للكليات وللمقاصد التي تقتضيها ديمومة الشريعة، والجزئيات وقضايا الأعيان التي يقتضيها عموم الشريعة لكل البلاد والعباد، والامتثال الذي يقتضيهما معا، لذلك نجد ورود كليات كثيرة في آي القرآن والسنة النبوية؛ نحو قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} البقرة:185، وقوله: {والله لا يحب الفساد} البقرة:205، وقوله: {ليقوم الناس بالقسط} الحديد:25، وقوله: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} البقرة:179. وفي الأحاديث نجد القواعد العامة، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن دماءكم وأموالكم وأبشاركم عليكم حرام”، وقوله: “ما أسكر كثيره فقليله حرام”، وقوله: “لا ضرر ولا ضرار”، وغيرها من نصوص الوحيين.وما كان من جزئيات، وقضايا الأعيان، فهي بين أمرين، إذ تحتمل أن يراد تعميمها، وتحتمل أن يراد تخصيصها. قال ابن عاشور: “ولعل هذا النوع هو الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كتابته فقال: “لا تكتبوا عني غير القرآن”، خشية أن تتخذ الجزئيات الخاصة كليات عامة.
ومن مسالك التشريع التي تؤكد عموم الشريعة أنها أوكلت أمورا كثيرة مما لم يقم دليل على تعيين حكمه، إلى اجتهاد علمائها الذين أورثتهم مقام النبوة، ليستنبطوا لها من أصول الشريعة وكليات مقاصدها ما يلائمها من الأحكام اعتمادا على ما رسمته لهم من آليات وما وفرت لهم من مقاصد ووسائل، وما يسعفهم به الواقع من معطيات وملابسات تيسر لهم طريق الوصول إلى الحكم الشرعي، فالأخذ بهذه المسالك والأدوات يجعل الشريعة خصبة ثرية ومنتجة، مشبعة لحاجات الناس في كل عصر ومصر.فعموم الشريعة وديمومتها لسائر البشر في سائر العصور مما أجمع عليه المسلمون، وقد أجمعوا على أنها مع عمومها صالحة للناس في كل زمان ومكان.
وقد بين الشيخ ابن عاشور أن هذه الصلوحية المشار إليها في كلام العلماء بالنسبة له، تحتمل أن تتصور بكيفيتين: الأولى أن هذه الشريعة قابلة بأصولها وكلياتها للانطباق على مختلف الأحوال، بحيث تساير أحكامها مختلف الأحوال دون حرج ولا مشقة ولا عسر، وشواهد هذه الكيفية ما نجده من محامل علماء الأمة أدلة كثيرة من أدلة الأحكام على مختلف الأحوال.
والثانية أن يكون مختلف أحوال العصور والأمم قابلا للتشكيل على نحو أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقة ولا عسر، كما أمكن تغيير الإسلام لبعض أحوال العرب والفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصين والترك، من غير أن يجدوا حرجا ولا عسرا في الإقلاع عما نزعوه من قديم أحوالهم الباطلة، ومن دون أن يلجؤوا إلى الانسلاخ عما اعتادوه وتعارفوه من العوائد المقبولة (وهاتان الكيفيتان متآيلتان وقد جمعهما معا مغزى قوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}).
وبناء عليه، فإنه يتعين أن يكون معنى صلوحية شريعة الإسلام لكل مكان وزمان أن تكون أحكامها كليات ومعانٍ مشتملة على حِكَمومعانٍ ومصالح، صالحة لأن تتفرع منها أحكام مختلفة الصور متحدة المقاصد.ولذلك، كانت أصول التشريع الإسلامي تتجنب التفريع والتحديد، كما قال الله تعالى: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما} النساء:16، ولم يذكر ضربا ولا رجما.
*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر