إن من مظاهر عزة هذا الدين، وظهوره على العالمين، وهيمنته على الدين كله تلك المناسك المقدسة التي جعلها الله جل شأنه تجليا من تجليات توحيده، ومظهرا من مظاهر عزة دينه وأهله، ومثابة لأخوة المؤمنين ووحدتهم، ومعلما لتعارف الشعوب والقبائل وتساوي بني آدم وكرامتهم. والتي تظللنا شهورها المحرمة هذه الأيام: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب}، وقد بدأت قوافل خير الأضياف بالتحرك إلى بيت الله الحرام يحركها إيمان صادق، ويحثها شوق مكين، ويحدوها رجاء كبير في الحي الكبير سبحانه، بيد أن حادي العيس هذا العام يشدو: حج بأية حال عدت يا حج؟.
إن من المعلوم من الدين بالضرورة أن الحج هو ركن من أركان الإسلام، ومن المعلوم أيضا أنه فرض مرة واحدة في العمر فقط، لمن كان مستطيعا قادرا رحمة من الله وتيسيرا: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا}، عن ابن عباس أن الأقرع بن حابس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحج كل عام؟، فقال: «لا بل حجة، فمن حج بعد ذلك فهو تطوع، ولو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لم تسمعوا ولم تطيعوا» رواه أحمد. وفي رواية لابن ماجه عن أنس بن مالك قال: قالوا: يا رسول الله، الحج في كل عام؟، قال: «ولو قلت نعم لوجبت، ولوجبت لم تقوموا بها، ولو لم تقوموا بها عُذّبتم».
وتأمّل كيف ينبههم عليه السلام إلى هذه الحقيقة الغريبة الواقعية: أن الحج لو فرض كل سنة لعصى المسلمون هذا الأمر ولم يقوموا به، واستحقوا بذلك عذاب العصاة!، والحمد لله أن الله تعالى رحمنا فلم يوجبه إلا مرة واحدة، وعلى من كان مستطيعا فقط، لكن هل حالنا مع الحج سوي مستقيم أم شابه ما شابه من اختلالات الفهم والتطبيق؟.
إن من المعلوم أن أكثر من يحج في كل سنة هم من يحجون تطوعا، حتى أن إحصائيات وزارة الحج السعودية تؤكد أن نسبة من يحجون للمرة الأولى -أي الذين يؤدون الفرض الواجب عليهم وليسوا متطوعين- لا تتجاوز نسبة 15% من مجموع الحجيج، وهذا مؤشر على اختلال فهم الأولويات وفقه مراتب الأعمال الشرعية، حيث أن هذا يبين واقع تسيير الحج في الدول الإسلامية حيث يحرم كثير ممن يبكون شوقا لأداء هذه الشعيرة العظيمة، ولكنهم يحرمون لينعم بها من له علاقات (ومعريفة) فيكرر الحج مرات ومرات، وغيره مشتاق لمرة واحدة يبكي لأجلها.
ثم إن تكلفة حج 85% من الحجاج هي ميزانية ضخمة جدا، وهناك سبل خيرات واجبة أولى بهذه الأموال (أوكّد أني أتكلم على من يحج للمرة الثانية إلى المرة العشرين، وليس على من وجب عليه الحج للمرة الأولى)، وهذا العام لا يختلف عاقلان أن إغاثة أهلنا في غزة، وحالهم لا تخفى على أحد أوجب وأولى، ولو أن كل من حج تطوعا هذا العام حج إلى غزة ودفع ماله إغاثة لأهلنا فيها ونصرة للمجاهدين من أبنائها؛ لكان لذلك أثرا كبيرا على سير الأحداث، ولكان مددا هاما لهم.
غير أن ما يجب قوله صراحة: إن كثيرا ممن يكرر الحج صار له هوى في ذلك، مما يتطلب منه مراجعة نيته؛ لأن من أعظم تلبيس إبليس على العبد أن يدفعه للعبادة موافقة للهوى لا للتحقق بالعبودية، مع أن “المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا” كما يقول الإمام الشاطبي رحمه الله.
ومن الدليل على أن العبد صار يحج هوى لا تعبدا، إذا أصبح يصر على الحج مرة بعد أخرى، ويسعى له بكل الوسائل، وينفق في سبيل ذلك ماله بسخاء، ولكنه يتثاقل في المشاركة في أبواب الطاعات مساعدة للفقراء والمرضى والمحتاجين في بلده، وإغاثة لإخوانه في غزة ودعما للمجاهدين فيها، ولا يجد في هذه لذة ولا يستشعر عبودية ولا طاعة.
ضف إلى ما سبق أن الحج فيه تعظيم لبيت الله الحرام الذي جعله الله مثابة وأمنا: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخِذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرَا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود}، لكن من أعظم الخلل في حياة المسلمين المعاصرين إهمالهم للمسجد الأقصى، وتقصيرهم في حقه، ورضاهم أن يكون مدنسا تحت سلطة الصهاينة أزيد من سبع وخمسين سنة، مع أن المسجد الأقصى هو قرين المسجد الحرام بنص القرآن: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله}، وهو ثاتي بيت لله وضع في الأرض، فعن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: «المسجد الحرام»، قلت: ثم أي؟ قال: «ثم المسجد الأقصى» قال: قلت: كم بينهما؟ قال: «أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصله، فإن الفضل فيه» رواه البخاري ومسلم، ومن فرّط في المسجد الثاني سيفرط في المسجد الأول بكل سهولة، إلا أن الأشاوس المجاهدين في غزة لم يفرطوا في المسجد الأقصى، بل جعلوا عنوان جهادهم (طوفان الأقصى)، وضحوا بآهاليهم وأموالهم ودنياهم كلها نصرة للأقصى المبارك، فهلّا أجل المتطوعون بالحج حجَّهم هذا العام وخالفوا أهواءهم، وحجّوا إلى غزّة فهنالك الإيمان، وهنالك تسمع (لبيك اللهم لبيك) صدقًا وحقًّا.
*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة