هل تساءل أحدنا حول رد الفعل الأمثل على الرسوم المسيئة لشارلي؟ وإلى أي مدى نحن التزمنا بتعاليم الإسلام في ردنا؟ وهل تجاوزت مواقفنا توجيهات نصوص القرآن في هذا الموضوع؟ بل هل حاولنا معرفة ما يطلبه منا الدين في مثل هذه الأحداث، من خلال قراءة صحيحة للنصوص، بحيث تكون أفعالنا منسجمة مع التأويل الصحيح للنصوص؟ أم أن الاستمزاج كان سيّد الموقف في التعبير عن الرسوم المسيئة لشارلي، تماما كسابق ردنا أيام الرسوم المسيئة لراسمي الكاريكاتور الدانمارك. إن نصوصا كثيرة من القرآن الكريم تدعو بشكل واضح إلى عدم الخوض في مواضيع تكفر وتستهزئ بآيات الله، وعدم مجالسة من يقوم بذلك، أو يتحمل فيها الله عزوجل مسؤولية الرد على من يستهزئ بالرسل والأنبياء، وعلى رأسهم الرسول الكريم. فكما يقول تعالى “وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزئ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا” النساء 140 وكذلك جميع النصوص التي تضم الاستهزاء بالرسول الكريم ورسل الله جميعا عليهم الصلاة والسلام، يتولى الله فيها المستهزئين، مثل قوله تعالى “وإذا رأوك، إن يتخذوك إلا هزؤا أهذا الذي بعث الله رسولا، إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا” الفرقان41-42. وقراءة متأنية في خلفية ظاهرة الرسوم غير القابلة لأي تبرير، تؤكد لنا أنها تجل وعنوان لمشروع فكري وإيديولوجي أكثر منه مجرد رهاب أو فوبيا، تعود لأفعال القاعدة وتفرعاتها، جرى تعميمها بسبب الخوف على الإسلام ورموزه، إنها تراكمات بعضها يعود إلى مغالطات تاريخية وأخرى مردها إلى كتابات كثير من المستشرقين القدامى والمحدثين، أو المستشرقون الجدد المتوزعين على مراكز تفكير تابعة لدوائر صنع القرار في أوروبا، والتي تعمل على استراتيجية لدفع تهديد الأقليات الإسلامية المتنامية لهوية أوروبا المسيحية، حيث يخشى الأوروبيون أن يلعب العامل الديموغرافي والهجرة دورا في تغيير الهوية الأوروبية، تماما كما تفعل إسرائيل في تأكيد الهوية اليهودية لدولة إسرائيل استباقا، إنها استراتيجية تقوم على رؤية متكاملة، ترعاها وتعمل على تنفيذها مؤسسات دينية ومدنية وسياسية، الهدف منها التحول بالفوبيا التي من المفترض أن تكون مؤقتة، تزول بزوال مسبباتها، إلى موقف فكري دائم تجاه الإسلام، من خلال السعي إلى تثبيت صورة ذهنية، تقوم على حقائق علمية، تقضي بأن العقل الإسلامي عاجز على هضم الفلسفة والمدنية الغربية منذ أرسطو إلى اليوم، عن طريق الاستهزاء بالكيان الحضاري الإسلامي عبر التاريخ، ابتداء من رمزه الأول ممثلا في الرسول الكريم. ويحضرني هنا تعريف بول فاليري للإنسان الأوروبي في مقال له بعنوان “أزمة الروح”، وهو يعتبر مرجعا لكثير من المفكرين والباحثين في أوروبا، وكان يحاول فيه الإجابة على من هو الأوروبي: “الأوروبي هو الإنسان الذي يمكن أن تحل فيه الروح الأوروبية، فأينما كان لأسماء مثل قيصر وكايوس وفرجيل والقديس بولس، وحيثما كان لأرسطو وأفلاطون وإقليدس دلالة وسلطة في آن واحد، فثمة تكون أوروبا”، إنها العصبية التي جعلت جالياتنا المسلمة في أوروبا تتحايل على هذا الوقع، فتسمي أبناءها صارة وريان وماية وليندا ومريم..الخ.. إنه الذوبان غير المقصود وليس الاندماج كما يقال. وكما حدّد بول فاليري هوية الأوروبي، انتهت أطروحة المؤرخ الفرنسي سيلفن غوغنهايم في كتابه الصادر عام 2008 تحت عنوان “أرسطو في جبل القديس ميشال” الجذور اليونانية لأوروبا المسيحية، إلى نتائج تقضي بأن الإرث اليوناني لم يصل إلى أوروبا عن طريق المسلمين، بل انتقل بشكل مباشر دون أن يكون للفلاسفة العرب أي دور فاصل، حيث أن أوروبا كانت دائمة التواصل مع العالم اليوناني، والفضل في ذلك يعود إلى جاك البندقي، ورهبان دير القديس ميشال، في فرنسا من خلال ترجمة النصوص الفلسفية من اليونانية إلى اللاتينية، وأي ادعاء لمزية الفلاسفة العرب مثل ابن رشد أو ابن سينا هو محض نسيج من الأكاذيب. ويدخل في هذا السياق قضية تمجيد الاستعمار بدل تجريمه، من خلال إبراز دوره الوهمي في تحضير البرابرة والذي يتطلب بالضرورة تجريد الحضارة الإسلامية من امتيازاتها العلمية والإشادة بما قام به الاستعمار من الدخول بالمتوحشين إلى دوائر الحضارة كما يؤكد الكسيس دي توكفيل وفيكتور هيغو. يبدو جليا أنه من الفاتيكان إلى جبل القديس ميشيل ومن دوائر صنع القرار في أوروبا إلى جامعاتها تتم محاولات تحويل الإسلاموفوبيا إلى موقف إيديولوجي وعلمي، ذلك ما ينبغي أن تنتبه إليه أمة اقرأ لتدرك خلفية وخفايا ما يجري، فالرسوم مجرد عنوان والمشروع أمر آخر لا يعالجه الشارع بقدر ما تقضي عليه إرهاصات المعرفة ونشرها وكذا تصحيح السلوك ومحاربة زوائد الإرهاب وتجسيداته.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات