من فوق، ومن علو الكبرياء، تبدو الجزائر واحة للحقوق، بفضل كساء من القوانين المصادق عليها في برلمان يعلم الله كيف جاء. قد تبدو واحة لحقوق الطفل، (لا يجد أين يلعب) والمرأة (لمجرد أنها تقود سيارة وتخرج للعمل). تبدو شعلة تتدفق صحة بفضل مجانية الخدمات الصحية. لكن، الجزائر هي أيضا بلد شباب يزداد عنفا في يومياته. وتطرفا في خياراته. لم يولد العنف من الفراغ. جده القريب هو انقلاب 62. وجده البعيد هو القبول بالهزيمة. لم نكن على قوة فكان الاحتلال. ولا نزال على الضعف، طالما نتقوى من الهزيمة. فلماذا نتحرر وكيف؟ نحن نحمل فينا كل قيم الخضوع والتبعية، للقريب والبعيد. نخاف من التهديد. ونخشى قول الحق. رضينا بقسمنا وقبلنا ترتيبنا بين الأمم. أو ربما فقدنا كشعب ما تم تجميعه من شرف وكرامة غداة الاستقلال. فقدنا إرث سنوات مقاومة الاحتلال، ومحاربة الظلم. وأنا على مقاعد الدراسة، من بين المقولات والحكم التي شدت انتباهي، مقولة “لكل زمان فرعون”. فهي إلى جانب مدلولها الحكيم، تقيس طول قامة قوة الظلم، بمستوى قبول الهزيمة مسبقا. هي سمة شعوب تتقاسم ذل التبعية. شعوب رددت شعارات لا تليق بصمتها عن الحق. لقد اشترينا كبرياء زائفة نعوض بها عن طبع هزيمة سكنت قلوبنا. وجدنا لنصفق. وحين نغضب، نحرق ونقاتل. كأننا نقوم بالوضوء الأكبر، لتطهير ضمير أعياه ذل الخضوع. لم يكن الغضب وسيلة ناجحة للتحرر من قبضة طغيان وظلم أنظمة حاقدة. كان الربيع العربي، كما كانت قبله محاولات العودة إلى شرعية الرضى، والتراضي، مجرد قفزة إلى المجهول. ليس لأن الخلل في ثورة الربيع، ولكن للفراغ المحيط بالثورات الاجتماعية. جاءت من غضب مجتمعات، لكنها لم تجد من يؤطر لها غضبها، ويحوله إلى مطالب تجمع المجتمع، ولا تدخله في خصام مميت. لم تنزلق الجزائر إلى دائرة العنف المبرح. لكنها لا تتمكن من الابتعاد عن شبح خطر يسكن أحشائها. لم تقدر على فك ارتباطها مع مظاهر الظلم، ولا الإكراه ولا الاحتقار. نعيش كغيرنا من شعوب التبعية داخل نسق يحدد مجالات المطالب، تحت سقف المطالبة بالتناوب السلمي على الحكم. فلا وجود لحق أو لواجب التناوب. فكل أشكال الأنظمة الموجودة عربيا على الأقل، تلتقي حول فكرة أنه عندما تقبض عائلة أو جماعة أو قبيلة بمقاليد الحكم، فهي لا تتركه ولا تفرط فيه. نحن ضمن هذه الحالة. يستطيع من يشاء الإضراب، والاحتجاج والتنديد، للمطالبة بأجر أكبر، وبعلاوات أكثر. نستطيع المزايدة على بعضنا، مستغلين الضعف الشامل، في ما يشبه الابتزاز المتبادل. نخرج في مسيرات، ونصرخ حتى تبح أصواتنا من أجل دنانير ننزعها عنوة من الخزينة. نستطيع شل قطاع بحجم وقيمة التربية والتعليم. ويمكن رؤية ما لم يكن يتخيله أحد. نعم، أقصد مسيرة واحتجاج وحدات من التدخل التابعة للأمن الوطني. يمكن تصور كل شيء، ويمكن قياس العِلل والمَلل. لكن تبقى كل هذه المطالب حركات من أجل وضع فردي في النهاية. فالزيادة التي انتزعها الأستاذ لا تجعله يستفيد من خدمات إنسانية لائقة في المستشفيات أو في الإدارة. والزيادات التي يحصل عليها الطبيب أو الممرض، أو الإداري لا يقابلها تطور في نوعية التعليم الذي يتلقاه ابن هذا أو ذاك. ولا يقابلها تقليص في زحمة الأقسام. إذن، حين نغضب إما نحرق أو نتقاتل. وإما نستعمل الضغط لانتزاع مزايا وحقوق من دون التزام بمضاعفة مجهود تحسين الأداء. فرعون زماننا هم فراعين. ولكل تخصص ومجال. فرعون يتحكم في المصائر بـ«التليكوموند”. وفرعون يتحكم في توزيع المشاريع، وفرعون يقبض بأسعار الغداء.. وهكذا. أحيانا (لكنها كثيرة) تغضبنا كلمة الحق. وأتذكر ما قاله عنا وعنه نور الدين بوكروح واصفا الجزائريين بـ«الغاشي”. قامت عليه القيامة غضبا وتنديدا. كان الغضب كبيرا، لأن الكلمة ضربت في الصميم. وتستمر المسيرة بأدوات وخطاب يغطي على عنف يرفض التداول السلمي على الحكم. مسيرة تستعمل الدولة المدنية كمصاصة.
ملاحظة: ما كتبته هو طريقتي في التضامن مع الزميل حميد غمراسة. ودفاعا عن الدولة المدنية التي يرويها النزهاء بأفكارهم وبمواقفهم. ودفاعا عن مهنية واحترافية إعلاميين يخاطرون من أجل الحقيقة، التي لا تتستر على الفساد، باسم مصلحة الوطن. فالمصلحة الوطنية لا تقبل القسمة، ولا ترضى بغير العدالة. و”حميد غمراسة” أحد هؤلاء.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات