+ -

إنّ كلّ ما ورد في القرآن العظيم وفي السُّنّة الشّريفة ممّا تشهد بصدقه وكونه حقًّا العقول القويمة، والفطر السّليمة، والبحوث المستقيمة المُنزّهة عن الهوى والعناد والجحود والمكابرة والتّحيّز والخضوع للأفكار المسبقة؛ ولهذا نجد مَن يعادون الإسلام لا يطعنون في أحكامه وحِكمها، وإنّما يثيرون الشّبهات ويلجؤون للتّشكيك، اصطيادًا في المياه العَكِرة، وهروبًا من المواجهة المباشرة، الّتي تفضحهم وتفضح ألاعيبهم وتقطع باطلهم؛ ولهذا أيضًا وجدنا كثيرًا من الباحثين والدّارسين الجادين بعد تجارب طويلة ودراسات عميقة يقرّرون حقائق قرّرها القرآن العظيم أو قرّرتها السُّنّة الشّريفة إمّا تلميحًا وإمّا تصريحًا، بل كثيرًا ما نجد أنّ ما قرّره هؤلاء الدّارسون يصلح شرحًا لبعض معاني الآيات أو بعض معاني الأحاديث الشّريفة.

ومن هذا السّبيل نجد سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في حديث شهير: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النّاس، فَهُوَ أَهْلَكَهُمْ». رُويَ: «أَهْلَكَهُمْ» بِالنَّصْبِ، أَوْ «أَهْلَكُهُمْ» بِالرَّفْعِ. رواه مسلم. قال الإمام العلامة ابن باديس عليه شآبيب الرّحمة والرّضوان: “المعنى على رواية «أَهْلَكَهُمْ»: إذا سمعتَ الرّجل يقول: هلك النّاس يثبطهم ويقنطهم فهو بذلك التّثبيط والتّقنيط أيْأسهم من رحمة الله وصدّهم عن الرّجوع إليه وبالتّوبة ودفعهم إلى الاستمرار فيما هم عليه، فأوقعهم بكلمته تلك في الهلاك، هلاك اليأس والقنوط والاندفاع في الشّرّ.. والحكم على هذا الوجه: لا يجوز لمَن رأى النّاس في حالة سيّئة أن يقنطهم من رحمة الله وإمكان تدارك أمرهم وإصلاح حالهم. هذا إذا كان يحمله على ذلك ما تعظمه من سوء حالهم في ظاهر أكثرهم وأحرى وأولى إذا كان يحمله على ذلك صدّهم وتثبيطهم عن التّوبة والأخذ بأسباب الإصلاح.. وهذا الحديث أصلٌ عظيم في التّربية المبنية على علم النّفس البشرية؛ فإنّ النّفوس عندما تشعر بحرمتها وقدرتها على الكمال تنبعث بقوّة ورغبة وعزيمة لنيل المطلوب. وعندما تشعر بحقارتها وعجزها تقعد عن العمل، وترجع إلى أحطِّ دركات السّقوط. فجاء هذا الحديث الشّريف يحذّر من تحقير النّاس وتقنيطهم، وذلك يقتضي أنّ المطلوب هو احترامهم وتنشيطهم، وهذا الأصل العظيم الّذي دلّ عليه هذا الحديث الشّريف يحتاج إليه كلّ مرب سواء أكان مربِّيًا للصّغار أم للكبار، وللأفراد أم للأمم، إذ التّحقير والتّقنيط وقطع حبل الرّجاء قتلٌ لنفوس الأفراد والجماعات، وذلك ضدّ التّربية، والاحترام والتّنشيط وبعث الرّجاء إحياء لها، وذلك هو غرض كلٌّ مربٍّ ناصح في تربيته. فاللّهمّ صلِّ على هذا النّبيّ الكريم العظيم الرّحيم الّذي علمته ما لم يكن يعلم وكان فضلك عليه وعلينا به عظيمًا، فكم من علوم وأسرار انطوت عليها أحاديثه الشّريفة قد أتت على ما لم تعرفه البشرية إلّا بعد حين، ولا عجب؛ فهو الّذي أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارًا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم”.وفي تأكيد بعض ما قرّره هذا الحديث يقول الكاتب الأمريكي الشّهير هربرت أ. شيللر في كتابه القيّم ((المتلاعبون بالعقول، ص 21)): “إنّ النّزعة التّشاؤميّة فيما يتعلّق بالإنسان تؤدّي إلى تكريس الوضع القائم. فهي نوع من التّرف بالنّسبة للغنيّ، وهي العزاء لمن يشعرون بالذّنب من المتقاعسين عن المشاركة الفعّالة في النّشاط السّياسيّ، وهي الرّاحة بالنّسبة لهؤلاء الّذين يواصلون الاستمتاع بأسباب الامتياز المادي. وتكلّف هذه النّزعة المحرومين من أيّ حقوق الكثير، فهم يستسلمون لها على حساب خلاصهم... إنّ على الرّجال والنّساء أن يؤمنوا بأنّ في مقدور الإنسانية أن تصبح إنسانية تمامًا حتّى يتسنّى بالفعل للجنس البشري أن يحقّق إنسانيته أو بعبارة أخرى: إنّ النّظرة التّفاؤلية الّتي لا إفراط فيها لقدرات الإنسان الكامنة (المبنية على الاعتراف بإنجازاته والإدراك الواعي في الوقت ذاته لنواحي ضعفه هي شرط لا غنى عنه من أجل فعل اجتماعي يحوّل ما هو ممكن إلى واقع فعلي)”.وهكذا يتوارد صحيح المنقول مع صريح المعقول على هذه الحقيقة، الّتي تُعدّ معيارًا مهمًا في الحكم على الشّعوب والمجتمعات إلى أيّ مدى هي مقبلة على التّغيير والإصلاح ومستعدة له؟. فإذا وجدنا شعبًا أو مجتمعًا متفائلًا في عمومه وغالبيته، له أمل في مستقبله القريب والبعيد، فهذا يُعدُّ إرهاصًا قويًّا على نُقلته الإصلاحية الوشيكة. ولكن إذا وجدنا شعبًا أو مجتمعًا في عمومه وغالبيته يلفّه التّشاؤم، ويقتله اليأس من حاضره ومستقبله، فلا ننتظر له الكثير!. وعلى نخبته أن تعيد تقييم واقعه، وتبذل جهودًا أكبر وتقدّم تضحيات أكثر في سبيل التّغيير والإصلاح!.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات