38serv

+ -

فيروس كورونا كان موجود وهو يهدد أرواح آلاف من البشر بعد أن أودى بحياة مئات منهم، والواقعية كانت تفرض علينا الاعتراف بوجوده بعيدا عما يذاع في وسائل التواصل الاجتماعي من التشكيكات وحكاية المؤامرات، والواقعية أيضا كانت تفرض على البشر محاربته وبذل كل ما يقدرون عليه للقضاء عليه. ولو طلع علينا من يقول: إن منطق الواقعية يفرض عليكم الاستسلام لفيروس كورونا، فلا تتعبوا أنفسكم في الأبحاث والإجراءات الوقائية، وتقبلوا نتائجه مهما كانت؛ لأن منظومة الفيروسات متقدمة على منظومة الطب، فالفيروسات تضرب دائما أولا، ثم يجري الباحثون والأطباء وراءها بحثا عن لقاح ودواء، فاستسلموا إذا لكورونا، واستسلموا لفيروس الإيدز، واستسلموا لمرض السرطان، واستسلموا لكل الأمراض، واستسلموا لكل أنواع الفساد والانحرافات التي تعرفها مجتمعاتكم؛ لأن منطق الواقعية يفرض عليكم هذا!.

لو طلع علينا طالع بمثل هذا المنطق والتحليل لعدّه الناس بإجماع تام مجنونا أو غبيا مُطبَقا!. ولا يختلف عنه في الغباء والجنون من يقول: إن الواقعية تفرض عليكم الاعتراف بوجود الكيان الصهيوني (إسرائيل)، وتقبله، وتطبيع العلاقات معه!؛ لأنه موجود في الواقع!. ذلك أن العقلاء يقولون: إن الواقعية التي تفرض علينا الاعتراف بالكيان الصهيوني -وهو موجود فعلا وجودا غير شرعي- هي ذاتها الواقعية التي تفرض علينا مقاومته ومحاربته، واستعمال كل (الأدوية واللقاحات) وكل وسائل المقاومة -وفي مقدمتها القتال والجهاد- من أجل القضاء عليه واجتثاثه من أصله!. هذه هي الواقعية العاقلة المنطقية، أما واقعية الغباء والاستغباء فهي شيء آخر لا يعرفه العقلاء وخاصة الشرفاء منهم!.

إن الله عز وجل يقول في كتابه: {ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين}، وفي قراءة أخرى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض..}، قال الإمام الأستاذ محمد عبده رحمه الله تعليقا على هذه الآية العظيمة: “أي: لولا أن الله تعالى يدفع أهل الباطل بأهل الحق، وأهل الفساد في الأرض بأهل الإصلاح فيها؛ لغلب أهل الباطل والإفساد في الأرض، وبغوا على الصالحين وأوقعوا بهم حتى يكون لهم السلطان وحدهم، فتفسد الأرض بفسادهم، فكان من فضل الله على العالمين وإحسانه إلى الناس أجمعين أن أذن لأهل دينه الحق المصلحين في الأرض بقتال المفسدين فيها من الكافرين والبغاة المعتدين، فأهل الحق حرب لأهل الباطل في كل زمان، والله ناصرهم ما نصروا الحق وأرادوا الإصلاح في الأرض، وقد سمى هذا دفعا على قراءة الجمهور {ولولا دفع الله..} باعتبار أنه منه سبحانه، إذ كان سنة من سننه في الاجتماع البشري، وسماه دفاعا في قراءة نافع: {ولولا دفاع الله..} باعتبار أن كلا من أهل الحق المصلحين وأهل الباطل المفسدين يقاوم الآخر ويقاتله”.

فحتى إذا تخاذل أهل الحق ولم يقاتلوا المعتدين لن يتركهم المعتدون، بل سيحاربونهم ويقاتلونهم ويتآمرون عليهم كما يفعل الصهاينة الآن ومنذ عقود. ولكن أكثر المسؤولين العرب وكل دعاة التطبيع والانبطاح أغبياء ولا يشعرون!.ثم إن من جليل وجميل وعظيم إعجازِ موقعِ هذه الآية أنها جاءت عقب قول الله جل شأنه: {قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}، حتى لا تترك لدعاة الخنوع والخضوع والانبطاح من المطبعين أي حجة، إذ أنهم يقولون: إن الصهاينة ليسوا وحدهم، فأمريكا معهم وهي تدعمهم، ومن يستطيع الوقوف في وجه أمريكا؟!، وليست أمريكا وحدها معهم بل العالم كله معهم، حتى الدول العربية معهم!. بيد أن وقائع التاريخ تذكرنا أن المجاهدين في سبيل حقهم، الذين انتصروا على أعدائهم كانوا دائما قلة وأضعف عدة وأقل عددا من المعتدين، وكانوا دائما هم الغالبين، ولا أحد يجهل ثورة الجزائر العظيمة وانتصارها على فرنسا ومن ورائها الحلف الأطلسي، ولا أحد يجهل انتصار الفيتناميين الباهر على أمريكا ومن ورائها الحلف الأطلسي!. ذلك أنه: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}.

إن حل الدولتين الذي يروج له منذ سنين، وما زال يطرح من كثيرين حتى في أتون المحرقة في غزة الصامدة، والذي صرحت كل الدول العربية بما فيها الجزائر -للأسف الشديد- بقبوله فيما عرف بالمبادرة العربية، التي قدمتها السعودية واعتمدتها (الجامعة العربية)، هو في حقيقته خيانة للقضية الفلسطينية، وخيانة لشعب فلسطين، وخيانة لدماء الشهداء التي ما تزال تسيل؛ لأن القبول باقتسام فلسطين إلى دولتين بغض النظر عن الكيلومترات والسنتيمترات، وبغض النظر عن كون السلطة الفلسطينية فيه هي مجاز مضحك وكناية سخيفة لا حقيقة لها، هو [أي اقتسام فلسطين] في حقيقة الأمر اعتراف بحق الصهاينة في امتلاك جزء من فلسطين غصبا وظلما.

وحل الدولتين المزعوم يسوي بشكل فكاهي بين الظالم الغاصب المعتدي المجرم وبين الضحية، بل يعطي المجرم المعتدي المحتل أفضلية في المساحة والحقوق!. ويطلب من صاحب البلد والأرض أن يرضى بأقل القليل إرضاء للمعتدي الذي هجّره وطرده من بيته وقتل من شاء من أهله وما يزال يفعل، بدعوى الواقعية والشرعية الدولية، وتصوروا لو أن أسرة كانت تمتلك بيتا مكونا من ست غرف تعيش فيه منذ قرون، فتأتي أسرة أخرى تقتحم بيتها بالقوة، ويدعمها أناس كثر يسكنون بعيدا عن مسكن هذه الأسرة المظلومة، فتقتل الأسرة الظالمة بعض أفراد الأسرة المقهورة، وتطرد أكثرهم للشارع، وتحتجز عددا قليلا منهم، تذيقهم ألوانا من العذاب لسنوات طوال، ثم بعد ذلك تريد تطبيع العلاقات معها، ويقف العالم كله مؤيدا للأسرة الظالمة مصفقا لها بدعوى السلام وحب السلام، ويكون الاتفاق كالآتي: الاعتراف بشرعية اعتدائي وشرعية امتلاكي ما أخذته من غرف بالقوة، ولن أسمح إلا لواحد من أفرادك أو واحد ونصف بالرجوع إلى البيت، والبقية يجب أن يوقعوا على إسقاط حقهم في الرجوع إلى بيتهم، وأعطيكم الشرفة أو جزءا منها لتعيشوا فيها، بشرط تنازلكم عن حقوق إنسانيتكم الأساسية، فهذا سخائي وجودي وكرمي، وإن لم تقبلوا فستتواصل عمليات التعذيب والإبادة البطيئة... إنها صورة كاريكاتورية، ولكنها أقل سوءا من واقع حل الدولتين. هذا الحل الذي يقوم على مغالطات سخيفة أساسها: المغالطة الأولى: تجاهل أن وجود الكيان الصهيوني (إسرائيل) في الأصل هو استعمار يجب تصفيته بحكم شرع الله الحق، وبحكم كل الأديان، وبحكم مواثيق الأمم المتحدة. المغالطة الثّانية (وهي أخبثها): التفريق بين أراضي الـ67 وأراضي الـ48 باعتبار الأخيرة حقا شرعيا للصهاينة واعتبار الأولى فقط محتلة، والتفاوض يكون عليها فقط. المغالطة الثالثة (وهي أحقرها): التسوية بين الصهاينة الظالمين المعتدين والفلسطينيين الأبرياء المظلومين!.

وعلى هذا فلا يؤمن بحل الدولتين إلا خبيث أو غبي، والترويج لهذا الحل الظالم من دول العالم ومن الدول العربية استغباء للشعوب ليس إلا!.

*إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة