38serv

+ -

يتساءل الكثير من الناس بحسن نية أو بمكر وتثبيط، كيف لفئة قليلة محدودة القوة والسلاح أن تواجه وتقاتل عدوا مدججا بشتى أنواع الأسلحة المدمرة ومساندا من قوى الظلم والطغيان العالمية، أنى لهم النصر وهم بهذه الحالة من الضعف والهوان. لكن هؤلاء نسوا قول الله عز وجل: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله}، هي سنة ربانية، لم تؤكدها هذه الآية فقط، بل إن حيثيات القصص القرآني في عمومه، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عبر التاريخ، هو انتصار الحق ولو قلّ ناصروه، وهزيمة الباطل ولو كثر تابعوه، مهما علا وانتفخ وتجبّر.

والعجيب أن سياق هذه الآية جاء في حق بني إسرائيل، في قصة طالوت وجالوت، وتردّد بني إسرائيل في القتال في سبيل الله مع طالوت، وكيف ابتلاهم الله في مراحل مختلفة، وفي كل مرة ينقضون مبادءهم، إذ هم أحرص الناس على حياة، ولا يقاتلون إلا في قرى محصنة أو من وراء جدار كما وصف الله تعالى، ومع أن أنبياءهم أكثروا من تطمينهم وإغرائهم بالإقدام، إلا أن حالهم كان التردد والجبن، وأقدمت الفئة المؤمنة في النهاية مع طالوت، وكان معهم داود عليه السلام، وهو الذي قتل جالوت الجبار، وكان لا يزال صغيرا، فعلم بهذه الدعوة فأخذ خمس حصيات من النهر وأقبل على جالوت ليبارزه فابتدره داود فرماه بحصاة بمقلاعه (وهو آلة ترمى بها الحجارة) فجاءت في جبينه فقتلته. وعلى إثر ذلك، فر جنود جالوت، وكان النصر حليف بني إسرائيل. فهذه هي سنة الله في نصرة أهل الحق وإن كانوا قلة، وخذلان أهل الباطل وإن كانوا كثرة.

يقول سبحانه وتعالى: {فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}، تسلط الآية الكريمة الضوء على قضية مهمة من حياتنا، هي قضية (الكم والكيف)، وعلى العلاقة الجدلية بينهما؛ فحين خرج طالوت لحرب جالوت، خرجت معه الألوف المؤلفة من الجند (كم)، فأراد أن يعرف نوعية الرجال الذين سيقاتل بهم فابتلاهم بالشرب من النهر، فشرب منه السواد الأعظم منهم، ولم ينجح في ذلك الامتحان سوى ثلاثمائة وبضع عشر رجلا -كعدة أصحاب بدر-، وكان موقف هذه القلة القليلة من جيش جالوت الموقف الذي يتناسب مع كيفهم، فقالوا: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله}، هذه الفئة القليلة هي الغالبة لما نالت من تأييد الله ونصره؛ لنصرها دينه واستحواذها على شروط النصر. إنها فئة تغلبت على شهواتها حين لم تشرب من النهر المغري الذي رأته، وبذلك حققت نصرا وغلبة في عالم الروح قبل عالم المادة. إنها فئة شجاعة ثابتة مكافحة متصبرة، لا تخور قواها أمام القوي ما دامت قد أخذت بالأسباب المادية والمعنوية. وفي ختام الآية: {والله مع الصابرين}، إشارة إلى أن هذه الفئة كانت تتحلى -في جملة ما تتحلى به- بالصبر الضروري لمجالدة العدو؛ إن هذه الفئة مجموعة “صابرة” استحقت معية الله تعالى وهو أبرز ما فيها؛ لذا ذكرت هذه الصفة في نهاية الآية، لأنها لقلتها بحاجة إلى صبر أكبر من صبر الفئة الكثيرة. إنها فئة اجتازت الاختبار والامتحان وابتليت فتمكنت، فالآية في بدايتها ووسطها تتحدث عن ابتلاء الله لجنود طالوت بعدم الشرب من النهر فتمايزوا، فمنهم فئة قليلة لم تشرب ونجحت في الاختبار، ثم تمايزوا مرة أخرى حين رأوا قوة طالوت وجنده فخاروا وجبنوا، وفئة قليلة منهم هم الذين ثبتوا وصبروا وهم الذين قالوا: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} أي بإرادته ومشيئته، فالأمر لله تعالى، والعزيز من أعزه الله، والذليل من أذله الله، فلا تغني الكثرة مع خذلانه، ولا تضرّ القلة مع نصره، {والله مع الصابرين} بالنصر والمعونة والتوفيق، فأعظم جالب لمعونة الله صبر العبد لله، فوقعت موعظته في قلوبهم وأثرت معهم.

إن الإيمان والدعاء والصبر من أسباب النصر، والكفر والمعصية والذنب من أسباب الهزيمة؛ يقول القرطبي معلقا على هذه القصة: “لكن الأعمال القبيحة، والنيات الفاسدة، منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو؛ كما شاهدناه غير مرة، وذلك بما كسبت أيدينا!”، إلى أن قال القرطبي معلقا على حال المسلمين في تلك الفترة الذي عاش فيها، وهي فترة ضعف المسلمين في الأندلس، وسقوط مدنهم في أيدي النصارى مدينة بعد مدينة: “فالأعمال فاسدة، والضعفاء مهملون، والصبر قليل، والاعتماد ضعيف، والتقوى زائلة!”؛ قال الله تعالى: {اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله}؛ وقال: {وعلى الله فتوكلوا}؛ وقال: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}، وقال: {ولينصرن الله من ينصره}، وقال: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}؛ فهذه أسباب النصر وشروطه.

فلما توفرت في هذه الفئة المؤمنة مواصفات وشروط النصر، نصرهم الله على عدوهم؛ قال تعالى: {فهزموهم بإذن الله}؛ وكذلك الأمر هذه الأيام في غزة، إن شاء الله تعالى ناصرهم لا محالة.