+ -

إن القول بحرية التصـرفات في الشؤون الدينية والدنيوية وتفاصيلهما ليس على إطلاقه، بل هناك جملة من القضايا التي حسمتها الشريعة بالضبط والتحديد في التناول وتثبيت ذلك، أو المنع من الدخول في التصرف وتأبيد ذلك، فهذه لا يجوز فيها حرية التصرف، ولا حرية تغييرها أو تبديلها؛ فمواقيت الصلاة، وزمان الحج، ووقت الصوم، وأنصبة الزكاة ومقاديرها، وأنصبة الميراث وتفاصيلها، ومقادير الحدود، وتعيين المحرمات من النساء، وتحريم التعامل بالربا، وتحريم التجارة في الخمر والخنزير، ومنع الغرر البيّن –الفاحش– في البيوع، وكذا النهي عن القمار والميسر بجميع صورهما، فهذه التصرفات وأمثالها لا رأي فيها لأحد بالرفع والإبطال، أو التغيير والتبديل؛ لأن الله تعالى تعبدنا بها، وأمرنا بالالتزام والانقياد له فيها، ومن هذا القبيل لو بايعت الأمة رجلا على الإمامة واجتمعت حوله، فليس بإمكان أحد الخروج عليه بعد البيعة وادّعاء الإمامة له أو لغيره؛ لأن ذلك يعدّ مُروقا من الدين وحِرابة توجب إقامة الحدّ عليه.

وامتناع حرية التصرف والرأي فيما سبق ذكره راجع إلى أن هذه التعاليم المنبثقة من وحي ليس بعده وحي، ومفروضة على الناس على سبيل الثبات والديمومة؛ لأن الذي جاء بها هو الدين الخاتم الذي لا دين بعده، فليس لها من ناقض ينقضها، ولكن لسائل أن يسأل ما محل الاجتهاد إذن في هذه المنظومة؟

إن عملية الاجتهاد لا تخفى منزلتها على أحد في المنظومة الإسلامية، مرصعة بشروطها وضوابطها، ولذلك فهي لا تتم إلا من خلال منظومة الوحي، وبحسب ما تسمح به وتحدّده هذه المنظومة من تفسير لما هو ظني، أو استنباط لما هو غير منصوص عليه وفق المبادئ والقواعد الكلية العامة. وبناء عليه، فإن هذه التعاليم وما جاء من نظائرها في التشريع الإسلامي يندرج ضمن سياق الثبات والديمومة، فليس لأحد أن يغير فيها شيئا، لا من حيث ذاتها في أحكامها المندرجة ضمن درجات الحكم الشرعي المعلومة، ولا من حيث منزلتها القيمية المرتبطة بمنزلة الوحي بصفة عامة، ومنزلة الأصول الكلية المؤسسة فيه بصفة خاصة، ولا من حيث الديمومة الزمنية التي تمتد في كل الأحوال والظروف على امتداد الوجود الإنساني دون أن يتطرق إليها الاستثناء أو التعطيل أو الإلغاء، إلا ما حدّده صاحب الشريعة من صور الاستثناءات، ولا من حيث تعلقها بالإنسان بمقتضى إنسانيته مطلقا عن عوارض الإنسانية من جنسٍ ولون وغيرها، فالحرية كما جاء بها الإسلام هي من جميع هذه النواحي قيمة كبرى تحتل من سلّم المقاصد الدينية الدرجات العليا، وهي قيمة ثابتة تتصف بالديمومة في الزمان والمكان.

ومن هذا القبيل أيضا، ما اتفق عليه أفراد مجتمع معيّن أو تجاره من الأعراف والعادات المحكمة، فإنها تنزل منزلة الشروط في التصرفات، ولا يمكن لأحد أن يتملص منها بحجة أن العقد لم ينص عليها، أو أنه لا يقبل الالتزام بها في هذا التصرف؛ لأن المجتمع قد ألزم نفسه وألزم كل من ينتمي إليه بها، فلا يملك فرد بمفرده الخروج عن هذا الوضع، وقد اتفقت كلمة الفقهاء في هذا الباب على قواعد عظيمة منها: (استعمال الناس حجة يجب العمل بها)، (الثابت بالعرف كالثابت بدليل شرعي)، (المعروف عرفا كالمشروط شرطا)، و(المعروف بين التجار كالمشروط بينهم).

ومما يدخل في هذا الباب تقييد الشريعة لحرية التصرف بقيود راجعة إلى حفظ مقاصد الشريعة في الأمة، إما لدرء مفسدة عامة أو مضرة خاصة، ويحصل هذا عندما يكون المالك للتصرف غير مؤهل لذلك، وقصور التصرف يكون لصبى أو سفه، أي اختلال العقل في التصرف المالي، أو إفلاس مدين أو عدم حرية، أو يكون التصرف نفسه فيه إضرار بالغير، ولهذا منع تبرع المريض مرض الموت ومن في حكمه بكل ماله، ومنع المالك من فتح كوة في جدار المطل على فناء جاره، لما فيها من الضرر به، ودليل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: “لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلاء”، فمنع فضل الماء المملوك جائز؛ لأنه تصرف في المملوك بناء على عدم وجوب المعروف، وهو قول المالكية، ولكن لما اتخذ حيلة لمنع الكلاء الذي حوله صار منع الماء منهيا عنه؛ لأن إطلاق الحرية فيه تؤدي إلى الإضرار بالغير في حقوقهم.

رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر