لم يكن قرار الجزائر إدراج اللغة الإنجليزية في التعليم، بدءاً من الابتدائي وصولاً إلى الجامعي، مجرد إصلاح تربوي بحت، بل أصبح خيارا ذي أبعاد سياسية وثقافية تتجاوز حدود المدرسة والجامعة. فبينما يتم التأكيد أن هذا التحول مرتبط بضرورات علمية وعصرنة المنظومة التربوية، يعكس القرار في العمق رغبة الدولة في إعادة تموضع لغوي واستراتيجي بعيداً عن النفوذ الفرنسي التاريخي، نحو فضاء أنجلوسكسوني أرحب وأكثر توافقاً مع توجهات الجزائر الجديدة.
الظاهر أن المسار يبدو بيداغوجياً خالصاً؛ فالرئيس عبد المجيد تبون شدد منذ 2022 على أن "اللغة الإنجليزية هي لغة العلم والتكنولوجيا، ولابد أن يتقنها التلميذ الجزائري منذ المراحل الأولى". كما وجّه الحكومة في اجتماع لمجلس الوزراء، بتاريخ 28 ماي 2023، إلى فتح تخصصات لتكوين أساتذة الإنجليزية في المدارس العليا للأساتذة، مؤكداً أن "التحول نحو الإنجليزية هو استثمار في المستقبل وليس إجراء ظرفيا".
أما وزير التعليم العالي، كمال بداري، فصرّح أكثر من مرة بأن "اعتماد اللغة الإنجليزية في الجامعة خيار استراتيجي غير قابل للتراجع، لأنها لغة البحث العلمي الأولى في العالم"، مشيراً إلى أن 90٪ من المنشورات العلمية العالمية تصدر بهذه اللغة الحيّة.
من هذا المنطلق، تسعى الجزائر إلى كسر الحواجز التي جعلت الجامعة الجزائرية شبه معزولة عن فضاء البحث الدولي بسبب هيمنة اللغة الفرنسية، التي لم تعد تواكب التطورات التكنولوجية والمفاهيم العلمية الحديثة، إذ أن أغلب المراجع والدوريات في مجالات الطب، والهندسة، والاقتصاد والذكاء الاصطناعي، تصدر بالإنجليزية، ما يجعل تدريسها بلغة أخرى عائقا أمام كفاءات المستقبل. وعندما توجهت الجامعة الجزائرية ومراكز البحث إلى الانجليزية، هاهي جامعاتنا أصبحت تنال تصنيفات عالمية ضمن أحسن الجامعات العالمية (جامعات سطيف، وسيدي بلعباس، وهواري بومدين وغيرها..).
"فكّ الارتباط الناعم" مع الفرنسية
لكن لا يمكن فصل هذا التوجه التربوي عن التحولات السياسية الأخيرة في علاقة الجزائر السيّدة بفرنسا، التي تمرّ منذ سنوات بفتور واضح.
فمنذ أزمة التأشيرات عام 2021، مروراً بملف الذاكرة الاستعمارية والتصريحات المتوترة للرئيس الفرنسي، وصولاً إلى تحفظ الجزائر على مواقف باريس من ملفات الساحل وإفريقيا، بدا أن اللغة الفرنسية أصبحت أحد رموز النفوذ الثقافي والسياسي الفرنسي في البلاد، وأن تقليص حضورها يشكل رسالة رمزية بليغة.
يقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر، د. بلال بن عثمان، إن "التحول اللغوي في الجزائر لا يمكن فصله عن التحول الجيوسياسي. اللغة كانت دوماً أداة نفوذ، وما تفعله الجزائر اليوم هو استعادة سيادتها الرمزية بعد عقود من التبعية اللغوية لفرنسا"، مردفا أن "التحول إلى الإنجليزية هو إعلان استقلال ثقافي متأخر، يعيد الجزائر إلى موقعها كدولة ذات سيادة لغوية وخيارات مستقلة"
في السياق نفسه، فسّر متابعون للعلاقات الجزائرية الفرنسية، في باريس هذا التوجه كـ "رسالة دبلوماسية باردة" إلى فرنسا، مفادها أن الجزائر لم تعد ترى في اللغة الفرنسية وسيلة حيوية للتقدم أو للتعاون؛ فالتقارب الجزائري مع الصين، وروسيا، وتركيا، ثم انفتاحها على التعاون الأكاديمي مع جامعات بريطانية وأمريكية، كلها تعزز هذا المسار الجديد.
بوصلة جديدة للهوية اللغوية
اللغة ليست مجرد أداة تعليم، بل هي خيار هوياتي واستراتيجي. الجزائر التي سعت بعد الاستقلال إلى تعريب التعليم، تجد نفسها اليوم تعيد رسم خريطتها اللغوية، لكن هذه المرة على أسس براغماتية، لا أيديولوجية، فالمسألة لم تعد بين العربية والفرنسية، بل بين لغة الماضي ولغة المستقبل.
وفي هذا المعنى، يبدو التوجه نحو الإنجليزية إعادة توجيه البوصلة اللغوية نحو عالم متعدد الأقطاب، حيث لم تعد فرنسا تحتكر رمزية الثقافة والعلم. وبينما تعتبر باريس ذلك "تراجعاً عن إرث مشترك"، تراه الجزائر السيّدة "تحرراً من إرث مثقل".
وفي النهاية، فإن قرار الجزائر تعزيز مكانة اللغة الإنجليزية، يجمع بين العقلانية العلمية والسيادة السياسية، فهو من جهة رهان على الجودة والانفتاح العلمي، ومن جهة أخرى رسالة سياسية ودبلوماسية تُترجم رغبة الدولة في ترسيخ استقلالها عن النفوذ الفرنسي.

التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال