اختناق المرور يحوّل حياة الجزائريين إلى جحيم

+ -

إذا كانت الجزائر تواجه، في الوقت الراهن على الأقل، تحديات أمنية بالدرجة الأولى، وأخرى اقتصادية فرضها انهيار أسعار البترول، فإن انسيابية حركة المُرور في المدن الكبرى تعتبر “تحدّيا” حقيقيا تُقاس به درجات “رفاهية” الشعوب. ومن دون مُخططات تنظم حركة المرور تفاديا للحوادث التي تزهق أرواح جزائريين بالآلاف سنويا، وضمانا لتدفق الحركة، فلا حديث إطلاقا عن النهوض بقطاعات السياحة والفلاحة والصناعة، وإنعاش الاستثمار في البلاد. يكون حجم حركة المرور في بعض النقاط كبيرا جدّا، إما خلال فترة ذروة الازدحام أو بشكل دائم. وقد يكون ازدحام السيارات طارئا بسبب حادث على الطريق أو وجود عائق، مثل أعمال بناء، وقد يؤدي هذا إلى حدوث احتقان مروري، وهذه الديناميكية التي تتقدم بها حركة المرور تسمى بتدفق أو بسيل حركة المرور. لكن من بين أكثر التساؤلات المطروحة في هذا الجانب: أين هي مخططات الحكومة لمواجهة هذا التحدي الذي لا يقل أهمية عن التحديات التي تواجه الجزائر، خصوصا أن المسألة تتعلق بأرواح المواطنين وسلامتهم؟هذا التساؤل وردت إجابته في “تقرير أسود” للشرطة حول حركة المرور التي تعرف اختناقا رهيبا في السنوات الأخيرة، لاسيما مع انعدام مخططات عملية لحل هذه “المعضلة”. ويشير محتوى التقرير إلى التطور السريع لحظيرة السيارات الذي يعد أهم أسباب الازدحام وغياب انسيابية حركة المرور. فقد تضاعف عدد المركبات خلال السنوات العشر الأخيرة، من حوالي 4 ملايين و482 ألف مركبة سنة 2004، إلى ما يقارب 7 ملايين و500 ألف مركبة سنة 2013، ليصل عدد المركبات العام الجاري إلى ما يفوق 8 ملايين مركبة.لا تخطيط عمراني ولا هم يحزنون..ولا يمكن الحديث عن “انسيابية” في حركة المرور إذا لم توفر السلطات العمومية حظائر تساهم في امتصاص زحمة المرور. فكثيرا ما  تحدث تدور السيارات بحثا عن أماكن مخصصة للركن، فينتج عن هذا الوضع احتقان مروري رهيب. وفي هذه النقطة يسجل التقرير نقصا فادحا في مواقف وحظائر السيارات بالمجمعات السكانية الكبيرة، مع نقص أماكن الوقوف والتوقف، في ظل غياب تخطيط عمراني مدروس وفق شبكة الطرقات والكثافة السكانية بالمدن الكبرى، إضافة إلى بقاء شبكة الطرقات داخل المدن على حالها لطبيعة التهيئة والبنية العمرانية، إلى جانب حالة الطرقات غير المهيأة ونقص إشارات المرور، خاصة الإشارات الضوئية التي من شأنها، نظريا، الحد من الاختناق المروري.وفي هذا السياق، اطلعت “الخبر” على مخطط لتخفيف الضغط على شوارع وطرقات العاصمة، ومن أبزر معالمه فتح المحاور القابلة للازدواجية، على غرار حي عين الباردة ببلدية وادي قريش، ومحور آخر بالقرب من نادي الضباط في بوشاوي، فيما توجد مناقصة قيد الدراسة لاختيار المقاولين لإنجاز طريق مزدوج من كلية الحقوق في بن عكنون نحو شوفالي. ويضاف إلى هذه المحاور طريق مزدوج من نادي الضباط في بني مسوس نحو بوزريعة، وطريق آخر من ملعب 5 جويلية إلى المطار الدولي، وسيكون هذا الطريق اجتنابيا جديدا يسمح لسكان بولوغين والرايس حميدو وحتى باب الوادي باستغلاله دون المرور على وسط العاصمة.لهذه الأسباب لم يرفع التحديولا حديث عن رفع تحدي تخليص المدن الكبرى من حركة المرور الخانقة، إذا لم يؤخذ بعين الاعتبار مراجعة مخططات النقل الجماعي الكارثي، المُفتقد لأبسط معايير السلامة والرفاهية. فقد ورد هذا النقص الفادح في تقرير الشرطة الذي أشار إلى عدم جدية مخططات النقل في بعض الأحيان وانعدامها أحيانا أخرى، مبرزا نقص ثقافة النقل الجماعي الحضري لدى الجزائريين نظرا لانعدام التغطية الكاملة للنقل الجماعي الحضري، مثل المترو والترامواي والقطار، إضافة إلى محدودية النقل الجماعي الحضري والبحري للأشخاص بين المدن الساحلية، وعدم ارتقائه لتطلعات المواطنين. بينما يرى التقرير بأن محطات نقل المسافرين لا تستجيب للمقاييس المطلوبة.وضمن مخطط مصالح العاصمة الخاص بحركة المرور، نقرأ عن مشروع لدعم مؤسسة النقل الحضري “إيتوزا” بـ400 حافلة جديدة، ومنح الموافقة لمؤسسة خاصة لاقتحام مجال النقل العمومي بـ1000 حافلة جديدة، والغرض من هذه التدابير الجديدة تشجيع المواطنين على الاستغناء عن مركباتهم قدر المستطاع.حلول عملية.. والتطبيق مؤجلكما سيرافق هذه الإجراءات إنجاز 5 مواقف سيارات ذات طوابق جديدة في بن عكنون، القبة، المدنية، الأبيار وحيدرة، ومشروع آخر مُنح فيه الامتياز العقاري لـ8 مستثمرين لإنجاز مواقف سيارات تحت الأرض، وفوقها فنادق أو مراكز أعمال، واسترجاع موقف ميناء العاصمة وأيضا الصابلات بطاقة استيعاب 2000 سيارة يدخل حيز الخدمة قريبا. علما أن التقرير صنف العاصمة بأنها تعد الأقل مساحة والأكثر كثافة من حيث السكان وولوج السيارات، حيث يتمركز النقل الحضري على الضفة الشرقية فقط، ما يجعلها تغرق يوميا وفي كل الأوقات ازدحاما مروريا خانقا.كما عاب التقرير توافق كل المؤسسات العمومية والهيئات الحكومية والرسمية في كافة المجالات، على أيام الاستقبال نفسها، فضلا عن تمركزها بالعاصمة والمدن الكبرى، فأكثر من 340 مرفق عام وهام موجود في العاصمة فقط، وهو ما يتسبب في تهافت المواطنين عليها بكثافة خلال أيام الاستقبال، ما يخلق ضغطا واختناقا على الوافدين إلى المدن الكبرى والمقيمين فيها على حد سواء.وتشير مراجع ودراسات دولية ذات مقاييس موحدّة، إلى أن انسيابية حركة المرور التي تحولت في بلادنا إلى تحدٍّ حقيقي عرف إغفالا حاليا، لا يمكن الوصول إلى تحقيقها إذا لم يعر مهندسو حركة المرور في الجزائر اهتماما لقياس سيل حركة السيارات حسب كثافة استخدام الطريق، وذلك استنادا إلى المعطيات المرورية التي يتم قياسها، وكذا اكتشاف خصائص عامة زمانية ومكانية تجريبية للازدحام المروري تكون متماثلة من حيث النوعية في طرق سريعة مختلفة.التقليد مسموح إذا كان نافعاومعلوم أن الازدحام المروري يصل فترة الذروة خلال أيام العمل في معظم المدن الكبيرة، وفي أوقات متوقعة من اليوم، بسبب العدد الكبير من المركبات التي تستخدم الطريق في الوقت نفسه، وتسمى هذه الظاهرة “ساعة ذروة الازدحام” أو “ساعة الذروة”، على الرغم من أن فترة الكثافة العالية للمرور غالبا ما تستمر أكثر من ساعة واحدة. لكن الملاحظ في طرقاتنا أن الزحمة تستمر طوال اليوم.ومن الضروري رفع تحدي تخليص المدن الكبرى من الازدحام المروري، للحفاظ على صفاء المناخ وتجنب تلويثه. فالعديد من الدول تتخذ إجراءات لتخفيف الازدحام والتلوث في ساعة الذروة، وتشجع استخدام وسائل النقل العمومي. على سبيل المثال، نجد في مدن ساوباولو ومانيلا ومكسيكو في المكسكيك، أن كل مركبة تُمنع يوما في الأسبوع من استخدام الطرقات خلال فترة الذروة، ويحدد اليوم الخاص بكل مركبة من خلال رقمها، وتقوم شرطة المرور بالحرص على تطبيق هذه القاعدة، إضافة إلى مئات الكاميرات المرورية الموضوعة في أماكن استراتيجية، مدعمة بأنظمة حاسوبية لتمييز الصور، وتقوم بإصدار مخالفات للسائقين المخالفين.أما في الولايات المتحدة وكندا، فيوجد في العديد من الطرق السريعة مسارُ خاصٌ بالمركبات ذات العدد الكبير للركاب، يُسمح به للسيارات التي تحمل راكبين على الأقل (وفي بعض الأماكن 3 راكبين). كما تفرض كثير من المدن الكبيرة قوانين صارمة لمنع وقوف السيارات خلال فترة الذروة على الطرقات الرئيسية التي تصل بين المناطق الرئيسية المركزية، فخلال ساعات محددة أثناء الأسبوع تتعرض المركبات المتوقفة على هذه الطرقات الرئيسية إلى مخالفة فورية، وتسحب المركبة على نفقة السائق. والهدف من هذه التقييدات توفير مسار إضافي من أجل زيادة استيعاب حركة المرور إلى الحد الأقصى.طاهر بعوني مدير مخبر البحث في المدينة والعمران والتنمية المستدامة لـ “الخبر” “التخطيط العمراني ليس متناسقا مع مخططات حركة المرور”ما هي الأسباب الرئيسية لعدم انسيابية حركة المرور في المدن الكبرى بالجزائر؟ أولا قبل الإجابة على سؤالك حول حركة النقل في المدن الكبرى في الجزائر، أود أن أؤكد أننا في بلاد النقلٌ غائبٌ فيها تماما في مجال التخطيط المكاني مهما كان الحجم. والمدن الجزائرية، بما فيها المراكز الحضرية الكبرى، تعاني منذ عقود من إشكالية التحضر السريع، ما يؤدي إلى معدلات النمو السكاني غير الكافية للوظائف، والتوزيع غير المتكافئ في الفضاء. وهكذا يمكن القول إن النقل الحضري لم يواكب التغييرات موازاة مع التحضر السريع، وهذا مما تسبب في الوضع الحالي للنقل في المدن الجزائرية الكبرى. كما أن عدم التطابق بين العرض والطلب في مجال النقل، نتيجة لخلل وظيفي في الفضاء العام، من بين الأسباب أيضا، وأيضا انعدام التخطيط الحضري المتماسك. وعلاوة على ذلك، استراتيجيات التمركز والتخطيط متحدة المركز، حتى الآن ماتزال المساحات العمرانية الجديدة بعيدة عن طرق النقل. وفي ظل نظام النقل الفاشل، يلجأ المواطنون إلى استخدام السيارة لأداء مشاغل حياتهم اليومية. إلى جانب فشل التدابير التنظيمية والمؤسسية التي تؤثر على تأطير التخطيط العمراني في وسائل النقل العام. وباختصار، فعلى الرغم من ترسانة القوانين واللوائح، يبقى تخطيط النقل في نهاية المطاف غير متناسق مع تلك القوانين واللوائح.في كل مرة تُعد قيادتا الدرك والأمن الوطنيين تقارير سوداء عن حركة المرور، ولكن لا يؤخذ بها، لماذا؟ هذا السؤال يتعلق بدرجة كبيرة حول السلامة في الطرق. وتشير الإحصائيات المقدمة من قبل الشرطة والدرك إلى العدد الكبير من القتلى، والذي يتجاوز 4000 حالة وفاة سنويا. وبطبيعة الحال، هذا الرقم ينذر بالخطر، والحكومة تعطي هذه الآفة درجة كبيرة من الأهمية.وهل حركة المرور الخانقة لها علاقة بحوادث المرور؟ يعتبر العنصر البشري هو السبب الرئيسي، وأيضا حالة طرقاتنا واحد من تلك الأسباب. وبصفتي خبيرا في هذه المسألة، ألاحظ العديد من الحالات الشاذة على طرقاتنا وخصوصا في بلد مفتوح مثل الجزائر، ويتعلق الأمر بالطريقة الخاطئة في صيانة الطرق، ووضع الممهلات من دون المعايير المعروفة. وأعتقد أن من الضروري أن تؤخذ مشكلة السلامة في الطرق على محمل الجد، وأود أن أقدم بعض الاقتراحات في هذا الشأن. أولها يجب أن يكون تعليم السلامة في الطرق أولوية في أي سياسة وقائية، ويشمل التعليم الأطفال والبالغين. ثانيا إشراك جميع أصحاب المصالح المحلية، وعلى رأسها الهيئات المنتخبة، في وضع برنامج عمل لمحاربة هذه الآفة، ثالثا إدخال تنظيم حركة المرور في منظومة التعليم.كنتم ممن درسوا بعمق حركة المرور في الجزائر. ما هي الحلول برأيكم ؟ فعلا قمنا بتطوير العديد من المشاريع البحثية في قضايا التنقل والنقل في المدن الجزائرية الكبرى. في ديسمبر الماضي أكملنا العمل الأكاديمي مع جامعة “ديجون” في فرنسا بخصوص الحراك العملي في الجزائر، وذلك في إطار التعاون والمشروع على بوابة جغرافية للنقل الحضري الجزائري التي تعتبر الأولى في الجزائر. أمّا بشأن الحلول الممكنة لدعم مسألة التنقل في المدن الكبيرة، للوهلة الأولى أستطيع أن أقول إن الزيادة المستمرة في استخدام السيارات بنفس القدر الحالي يسبب التلوث، ويهدد تطوير المدن الجزائرية الكبرى، وكانت السلطات في بحث دائم عن سياسة جديدة للنقل تشجع على انخفاض استخدام السيارات، وكذا تحسين وسائل التنقل لتحقيق التنمية المستدامة. لذلك لا بد أن يخضع النقل الحضري إلى تكامل مع التخطيط العمراني للمدن الجزائرية. وفي هذا السياق، تشمل هذه العناصر الحلول التالية: أولها تعزيز إمكانية الوصول إلى المدينة لجميع السكان وتطوير مشترك بين طريقة استعمال وسائط النقل المختلفة. ثانيا الحفاظ على بيئة نوعية تخص المعيشة، ثالثا مراقبة وتعزيز التنمية الحضرية وضمان اتساق وتناغم.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات