38serv

+ -

رنّ الهاتف المشؤوم عشية ليلة مباركة وشهر فضيل، كيف لا ونحن نترقب هلال رمضان وفرحة الصيام.. نظرت إلى شاشة هاتفي، فقرأت اسم زميلي بن زرقة "كاكي"، (كاكي الكنية التي اشتهر بها في أوساط عائلته وزملائه وأصدقائه، وهي مختصر لاسمه عبد القادر).. أجبت بسرعة.. ألو "كاكي" كيف حالك؟، ردّ عليّ بصوت ثابت فيه نبرة لم أعتدها منه: "آلو الحاج (هكذا كان يلقبني منذ أن أديت مناسك الحج ذات نوفمبر من سنة 2010)، لقد ظهرت نتائج تحاليل الأشعة، لقد اكتشفوا ورما في رأسي، وأحتاج إلى عملية جراحية مستعجلة على مستوى الرأس لاستئصال الورم.. من فضلك ساعدني مع معارفك، لكي أستنفذ إجراءات الدخول إلى مستشفى الدكتور بن زرجب". تسمّرت في مكاني وتلعثم لساني من هول الصدمة، وبعد برهة من الزمن، استجمعت قواي وأجبته قائلا: "لا تخف عبد القادر، إن شاء الله ما يكون غير الخير، وتشفى من مرضك، وتعود إلينا وإلى أهلك أحسن من قبل".

في اليوم الموالي ضربت له موعدا وبدأنا إجراءات استشفائه على مستوى مصلحة جراحة المخ والأعصاب، وتمت الأمور بسلاسة وسرعة كبيرة، وليت ذلك ما حدث، حيث نجحت بمساعدة صديقنا الحاج (أحد مستخدمي المؤسسة الاستشفائية المذكورة)، في إدخاله المستشفى بعد انقضاء أربعة أيام من شهر رمضان، الأمر الذي جعله متفائلا وفرحا، (ونحن معه)، بانقشاع هذه الغمامة، وزوال هذا الكابوس الذي نغصّ علينا فرحة الصيام إلى غير رجعه، فقد كنا نمني النفس بأنه سيخضع للجراحة ويغادر المستشفى معافى بعد أيام معدودة، ولكن القدر الإلهي والأقلام التي جفّت والصحف التي طويت، أرادت عكس ذلك.

في اليوم الموالي من العملية الجراحية، دخلتُ عليه غرفة الإنعاش، ناديته فرد علي مُلوحا بيده اليمنى، فاردا أصبعه الإبهام كإشارة منه إلى أنه بخير، وبعدها بساعات طلب منا قلما وقصاصة ورق لأنه لم يكن يقوى على النطق بعد العملية، فتفاجأنا بأنه يكتب اسم ابنه الوحيد "يوسف"، بكينا وفرحنا في آن واحد، ولكن هذه الفرحة لم تدم طويلا، فقد اضطر الطاقم الطبي إلى إدخاله لغرفة العمليات من جديد لتعقد وضعه الصحي وعدم تمكنه من التنفس، لدرجة أنهم عمدوا إلى تثبيت ثقب قي حنجرته لمساعدته على التنفس، ومن ثمة تحويله إلى مصلحة الإنعاش على جناح السرعة. ومنذ ذلك الحين ونحن نتخبط في دوامة لا نهاية لها، وحلقة مفرغة جعلتنا نكابد مضاعفات لم تكن في البال ولا على الخاطر، فمن فيروس في الرئة إلى التهاب السحايا، إلى قصور كلوي، إلى سكتة قلبية، إلى جلطة دماغية.. وجل ذلك بسبب منظومة صحية مريضة ولعينة، جعلتني وغيري من زملائنا نعض على أيدينا بالنواجذ، ونلوم أنفسنا لعدم معارضتنا لموقف "كاكي" وإصراره واستعجاله بالخضوع للجراحة في هذه المصلحة المنكوبة.

إن العين لتدمع وإن القلب ليخشع، وإنا على فراقك يا أبا يوسف لمحزونون، وإني من هذا المقام أطلب منك السماح إن بدر مني أي تقصير في رحلة مرضك، فأنت اليوم في دار الحق بين يدي الرحمان الرحيم، غادرتنا وأنت في ريعان شبابك (41 سنة)، وخلفت وراءك دنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، والتحقت بدار المقام التي لا يظلم فيها أحد، والتي نسأل المولى عز وجل أن يبدلك فيها دارا خيرا من دارك، وأهلا خيرا من أهلك، وجنة عرضها السماوات والأرض، مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

أردت في هذا المصاب الجلل الذي لم أستوعبه لحد الساعة، أن أقلب في صفحات ذكرياتي لأسترجع بعض محاسنك وأذكرها مثلما أوصانا الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، وإني والله لم أجد غيرها، فقد جلست أمامي مدة تقارب 15 سنة، ولم أسمع منك يوما كلمة سيئة ولا لمحتك يوما تغتاب في شخص، ولا تغضب لأي شيء، حتى ولو أساؤوا إليك ونالوا منك.

كنت محبا للخير، كيف لا وقد هاتفتني أياما قليلة قبيل رمضان، وسألتني قائلا "هل ستوزعون قفة رمضان مثل كل سنة؟"، فأجبتك "بالطبع فهذه السُنة لن نتخلى عنها إن شاء الله إلى أن نفارق الحياة"، وبعدها بيوم أعطيتني مساهمتك المادية، وعدت وأنت تعاني من المرض لتأخذ القفة وتسلمها إلى إحدى العائلات الفقيرة التي دأبت على مساعدتها منذ سنوات.

نم قرير العين أخي عبد القادر، فقد كنت تُحسن الظن بربك، وتُغلّب الرجاء فيه، والتحقت به بعد أن صُمت الأيام الأولى من رمضان رغم التعب والمرض، ونلت ما نلت من البلاء والسقم في آخر أيامك، فاللهم يجازيك جنة ونعيما وملكا كبيرا. أما نحن فلا نقول إلا ما يرضي ربنا، إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.