+ -

يعد العمل وسيلة لاستخراج منافع الأرض وإيجاد الطرق والوسائل إلى استغلالها والانتفاع بها، كما أنه طريق لحصول الثروة بالازدراع والاتجار وغيرها.

وقد حثت الشريعة الناس على العمل حيث قال تعالى: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} المزمل:20، وقال: {الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} الجاثية:12. وقال صلى الله عليه وسلم: “أطيب الكسب عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور”، وقال: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها”، وعن مقداد بن معدي كرب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآه باسطا يده ويقول: “ما أكل أحدكم طعاما أحب إلى الله عز وجل من عمل يده”، وغير هذا من النصوص كثير. وحرصا من الشريعة على تقوية جانب العمل والترغيب فيه، وسد باب الكسل وذم المنخرطين فيه، عمدت إلى حسم مادة المسألة إلا بحقها وشروطها، لأنها تعتبرها أثرا من آثار التقاعس والخمول والتوكل على الغير، حيث قال صلى الله عليه وسلم: “ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يلقى الله وما على وجهه مزعة لحم”، وقال صلى الله عليه وسلم: “لأن يأخذ أحدكم حبله ويحتطب خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه”. ولهذا فإن من لم تكن له كفاية وهو قادر على الكسب فلا يكون كلا وثقلا على الناس، وقد ذم الله ذلك في كتابه العزيز فقال: {وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير} النحل:76، ومثل هذا الشخص يعتبر غنيا بقدرته على الكسب، فلا يعطى من أموال الزكاة لحاجته، ويجب عليه القيام بما يلزمه من نفقات عياله وأهله، قال ابن ناصر السعدي: (ومن الفروق الصحيحة أن القدرة على التكسب غنى يمنع صاحبه أخذ الزكاة لحاجته، ويوجب عليه فيه قضاء الدين والنفقات الواجبة لأن الواجب قد قرر عليه ولا سبيل إلى أدائه إلا بالكسب الذي يقدر عليه فوجب عليه).

ولما كان مقصد الشريعة العام إقامة الصلاح وإزالة الفساد حملت أعمال الناس عليه، وجعلته مناطا لها، ومن ثم فإن كل عمل يصدر عن الإنسان إذا ما وافق هذا المقصد فهو موافق للشريعة، وإذا ما خالفه فهو مخالف لها، والأدلة على ذلك كثيرة حيث قال تعالى: {وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} الأعراف:142، وقال حكاية عن شريعة شعيب لأهل مدين: {ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} الأعراف:85، وفي آية أخرى: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} البقرة:60، وقال مخاطبا هذه الأمة: {فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين} الأعراف:85، وقال: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} البقرة:205، وقوله صلى الله عليه وسلم: “أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين” فقال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} المؤمنين:51. وكل عمل مهما كان فقوامه أمران: سلامة العقل، وسلامة الجسد.

سلامة العقل: المقصود به حسن التدبير وهو أصل الثروة لأنه بواسطته يمكن تحقيق الثراء، ولذلك اشترط الفقهاء حسن النظر وإصلاح المال في ماهية الرشد. ويحصل حسن النظر بتوخي أحسن أساليب الإنتاج، وجلب الثراء بإتباع أنفع المناهج وأفضل كيفيات العمل، واختيار أنسب الأوقات، ورصد حركة الأموال ورواجها لمعرفة الأحوال المناسبة للإصدار عند الشعور بالطلب، والجلب عند مسيس الحاجة إلى ما يجب، والادخار عند ركود الأسعار، أو خوف من فقدان ما به دوران الميسرة، وقد ذكر القرآن صورة لهذه الحال، وهي واقعة وقعت في عهد يوسف عليه السلام حيث قال تعالى: {فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون * ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون * ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون} يوسف:47-49، ثم قال {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} يوسف:111، وعلق ابن عاشور على هذه الآيات فقال: (فهذه الآيات عبرة لأهل الاقتصاد).

وقد كان السلف رضي الله عنهم يحثون على حسن التدبير ويتواصون به، فقد كتب عبد العزيز بن مروان إلى ابنه عمر بن عبد العزيز فقال له: (اعلم يا بني أنه لا دين لمن لا دفتر له، ولا مال لمن لا تدبير له، ولا مروءة لمن لا إخوان له)، ونقل ابن أبي الدنيا عن شيخ من قريش أنه قال: (كان يقال: حسن التدبير مفتاح الرشد وباب السلامة الاقتصاد).

سلامة الجسد: ونعني به الصحة لتنفيذ الأعمال، كاستعمال الآلات، والقدرة على السفر لجلب الأقوات والاحتياجات، واستثمار المال بالزراعة والصناعة وغيرها، ولهذا اعتنت الشريعة بحفظ النفس عناية بالغة فجعلتها واحدة من الكليات الضرورية، ومنحتها المرتبة الثانية بعد الدين، ومنعت الإنسان من الإلقاء بيده إلى التهلكة حيث قال تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} البقرة:195، ونهته عن تعاطي أي مأكول أو مشروب يلحق ضررا بصحته، وحرمت عليه اقتراب أي فعل يعود بالضرر على صحته.

وقد نبه ابن عاشور إلى أنه هناك أشياء تعين على صلاح العمل وتيسيره وهي: النظام، والتوقيت، والدوام، وترك الكلفة، والمبادرة، والإتقان.

*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر