38serv

+ -

 لن تجد شخصا يمدح التعصب، ولن تجد شخصا يحب المتعصبين، فكل الناس يذمّون التعصب والمتعصبين، ويتبرؤون من التعصب وأهله، حتى أنك تجد بعض كبار المتعصبين (كبير في السن والمكانة عند المتعصبين حوله، وليس في العلم!) يكتب كتابا حول التعصب! لكن هل واقعنا العملي كذلك؟

فعلى هذا الأساس من رفض جميع الناس للتعصب نظريا من المفروض أن لا يكون بيننا متعصبون، غير أن الواقع الذي نعيشه يعج بأنواع التعصب ويزدحم بأشخاص المتعصبين، الذين يرون أنهم امتلكوا الحق المطلق الذي يحصنهم من المراجعة والنقد، وأنهم أمسكوا بالحقيقة التي تمنحهم كل العلم والفهم، وأنهم احتكروا الصواب الذي يمنحهم العصمة وكل أشكال التفوق على غيرهم من البشر. كما أنهم المصطفون الأخيار الذين اصطفاهم الله لحمل الحقيقة وحمل الناس عليها بلا مناقشة منهم ولا نظر! وهنا يطول تعجبي من أناس يشكلون جزءا صغيرا من المسلمين، ولكنهم يعتقدون اعتقادا جازما أنهم أهل الحق دون غيرهم من المسلمين، وأنهم أهل النجاة دون غيرهم من المؤمنين! وهذا حال كثير من الناس للأسف الشديد، وقد صار الشعار المرفوع فوق رؤوسهم وإن لم يحملوه: قولي - أو قول شيخي وجماعتي بالأحرى - صواب دائما ولا يحتمل الخطأ أبدا، وقول غيري خطأ أبد الدهر، ولا يحتمل الصواب حتى يَلِج الجمل في سم الخياط!

ولما كان التعصب من أخطر الصوارف عن الحق الحاجزة عن الهداية، نجد القرآن الكريم يحذرنا من منهج المتعصبين ومآلهم، ويكفي أن القرآن الكريم يذكر أن الرسل الكرام عليهم السلام إنما كُذّبوا ورُدّ الحق الذي جاءوا به من متعصبين، لا يرون الحق إلا فيما عرفوا وألِفوا، قال الحق سبحانه: {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون * وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون}، وهذا هو التعصب في أبشع صوره، وإن كان التعصب بشع كله!. وقال الحق سبحانه عن تعصب اليهود: {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون * ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم}، وهذا هو التعصب الغبي، وصدق من قال: لا يتعصب إلا غبي أو عصبي.

إن خطورة التعصب هي أنه يجعل على صاحبه غشاوة من الوهم تمنعه من التفكير والنقد، ويشعل فيه جحيما من الحماس لشيخه أو طائفته أو نحلته أو مذهبه تجعله يبغض بغضا لا هوادة فيه كل من يخالف - مجرد مخالفة - رأيه أو رأي شيخه أو رأي طائفته، أما إذا كانت المخالفة مصحوبة بالرد على شيخه أو طائفته فهي البراكين تنفجر بغضا وسبا واتهاما وتبديعا وتضليلا وتفسيقا وتكفيرا. وفي هذا يقول العلامة صديق حسن خان القِنوجي رحمه الله: (والمتعصب وإن كان بصره صحيحا، فبصيرته عمياء، وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق غفلة منه وجهلا بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح، وتلقي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم). ولكن التعصب يبلغ مداه حين يصير الرأي أو الشيخ أو الطائفة هو الكتاب والسنة! وبالتالي من يخالف الرأي أو الشيخ أو الطائفة فهو يخالف الكتاب والسنة!

ولا يخفى أن التعصب ليس حكرا على المتدينين، بل لغيرهم حظهم منه، بل حظ جليل، فالمتدينون قد يعذرون بعض العذر في تعصبهم للمعاني الدينية بما فيها من جلال وقداسة، ولكن المعادين للتدين والماديين والعلمانيين إنما يتعصبون لأقوال بشر يصيبون ويخطئون، ويتعصب كثير منهم لكل فكرة كان مصدرها الغرب عموما، ويتعصبون للمفكرين الغربيين كأن ما يقولونه وحي يوحى لا يأتيه الباطل من قدامه ولا من خلفه، مع أن أكثرهم في الضلال سادرون، وعن الجهالة يصدرون، وسرعان ما يكفرون هم أنفسهم بما يأفكون، ويبقى أذنابهم عندنا لباطلهم متعصبون، وبه مؤمنون، وعليه يقاتلون. وللتعصب عندهم فنون!

وصفو القول: أن الإنسان عليه أن يتعلم كيف يستمع للآخرين؟ وكيف يستفيد من الآخرين؟ وكيف يعرف أخطاءه؟ وكيف يصحح هذه الأخطاء؟ وكيف ينتقد مساره؟ وكيف يقوم هذا المسار؟ وكيف يتواضع للحق؟ وكيف ينقاد للصواب؟ وكيف يتعلم من أخطائه؟ وكيف يكون الحق قائده من أي وعاء خرج؟ وكيف يكون الصواب رائده بأي لبوس ظهر؟ وكيف يجدد معارفه ومداركه ومواقفه؟ حتى لا يقع في غائلة التعصب، ولا يحشر في زمرة المتعصبين.

*إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة