الجراح في الأمة كثيرة، ولكن بعضها أخطر من بعض، فجرح القدم مثلا ليس كجرح البطن، إننا نشرِّق ونغرِّب، فنجد جرحا هنا وجرحا هناك، مأساة في العراق وأخرى في الشام. ومع ذلك، فإن قضية القلب، القضية الأكثر خطرا والأعظم أهمية هي قضية فلسطين وبيت المقدس ومسرى الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى الذي فتحه الصحابة ورووه بدمائهم في سبيل الله، هذه القضية التي ما يجري شيء في واقعنا المعاصر إلا وله صلة بها، وهي أساس فيه.
قضية فلسطين قضية إيمان وعقيدة، إنها ليست قضية أرض وطين ومفاوضات سياسية، ولا قضية دول وسلطة ذاتية وغير ذاتية؛ إنها قضية آيات قرآنية؛ قِبلة المسلمين الأولى التي توجه إليها النبي والصحب الكرام نحو ستة عشر أو سبعة عشر شهرا {وما جعلنا القبلة التي كنتَ عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه}، فخاض في ذلك اليهود منذ عهد النبي فقالوا: إما أن قبلتك الأولى صحيحة فانصرفت إلى باطل، وإما أنها ليست صحيحة فكنت على ضلال، فأنزل الله سبحانه وتعالى ما يرد مقالتهم، ويبطل إرجافهم.
ثم من بعد ذلك فضيلة أخرى: “لا تشدّ الرحال إلا لثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى”، إنها استثناءات قالها سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، إنه تعبد شرعه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، إنه دين لا يملك أحد تغييره ولا تبديله، وفي حديث أبي ذر في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أول بيت بني لله عز وجل؟ فقال: “البيت الحرام”، قيل: ثم أي؟ قال: “بيت المقدس”، فنحن عندما ننظر إلى هذه الأصول، نعرف أن هذه هي الأرض التي باركها الله عز وجل، وجاءت الآيات تترا في كتاب الله تبيّن ذلك: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا}. وهي الأرض المباركة التي يبقى ويظل لها صلتها وارتباطها بالإسلام إلى آخر الزمان وإلى قيام الساعة، يقول المعصوم: “لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من جابههم إلا ما أصابهم من لأوى” -أي: من أذى وضر- قالوا: أين هم يا رسول الله؟ قال: “ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس”.
يوم فتح بيت المقدس عمر رضي الله عنه كان فتحا عظيما، ليس في التاريخ له مثيل، فتح قوة الإيمان أمام أباطيل الكفر وانحرافاته، فتح قوة الحق أمام أراجيف الباطل وظلماته، فتح قوة الحضارة أمام الهمجية، وفتح نور الإسلام أمام تلك الظلمات العظيمة، فتح العدالة التي ألغت الظلم، فتح السلم الذي عمّ بخيره الناس جميعا، وكانت معاهدة عمر التي أثبتت سماحة الإسلام، وأظهرت ترجمته العملية في واقع الأمة الإسلامية، وكانت تلك الصورة الحضارية العظيمة لأمة الإسلام.
إن الجهاد الذي في غزة وفي ربوع فلسطين لن يوقفه دهاقنة السياسة مهما أوتوا من الذكاء، ولا أرباب الفنادق والمؤتمرات، إن الذي أربك خطط الأعداء وأقض مضاجعهم، وجعلهم يحركون الآلة العسكرية الضخمة وهدفهم القضاء على المقاومة الجهادية المسلحة في وجه اليهود أو إيقافها، وهو أمر مستحيل، فالمقاومون في غزة المقاومة بالنسبة لهم قضية موت أو حياة، قضية وجود أو عدم، فهم قد قرءوا القرآن وعرفوا حقائقه، وقرءوا التاريخ وعرفوا سننه وقضاياه، ثم عرفوا واقع اليهود اليوم الذين كذبوا كما كذب أسلافهم، وغدروا كما غدر أسلافهم، وما زالوا يمارسون أبشع أنواع الجرائم على سمع الزمان والدول والمجتمع كله، دون أن يتحرك ساكن، ودون أن يجف حبر ما يقال من هذه القرارات الدولية التي تطبق كما هو معروف بمكيالين، بل أقول بمكيال واحد لأنه لا مكيال آخر غيره.
نسأله تعالى أن يبصرنا بحقائق ديننا، وأن يعرفنا بالمخاطر التي تحدق بأمتنا، ونسأله جلّ وعلا أن يصرف عنا وعن أهل الإسلام في كل مكان الشر والضر؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.. والله ولي التوفيق.
* إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية – الجزائر1