+ -

 من أبرز الأخلاق التي يجب على كل إنسان أن يتصف بها ويحافظ عليها خُلق الأمانة؛ قال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}، قال الهيتمي في “الزواجر عن اقتراف الكبائر”: الكبيرة الأربعون بعد المائتين: الخيانة في الأمانات كالوديعة، والعين المرهونة، أو المستأجرة، وغير ذلك).

أمر الأمانة عظيم، وخطرها كبير، فلقد استهان كثير من الناس، اليوم، بأمر الأمانة حتى أضحوا لا يلقون لها بالا، ولا يقيمون لها وزنا، وذلك ناتج عن سوء فهم لمعنى الأمانة وما يترتب على تضييعها والتفريط فيها من العذاب والعقاب. والأمانات هي كل ما ائتُمن عليه الإنسان وأمر بالقيام به، فأمر الله عباده بأدائها؛ أي: كاملة موفرة، لا منقوصة ولا مبخوسة، ولا ممطولا بها، ويدخل في ذلك أمانات الولايات والأموال والأسرار، والمأمورات التي لا يطلع عليها إلا الله، وأمر الله تعالى بأداء الأمانة في قوله تعالى: {فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه}.
ويجب على المؤتمَنِ التصرف بالمال كما يريد صاحب المال، وفي حدود ما منحه من صلاحيات، لكن ضعف الضمير قد يدفع الشخص نحو الاستئثار بالمال الذي سُلّم إليه على سبيل الأمانة، ضارباً عرض الحائط بمبادئ النزاهة والثقة، ومبادلا الأمانة بالخيانة.

ولما ذكر الله تعالى أوصاف المؤمنين المفلحين قال: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون}، قال الإمام ابن كثير: أي: إذا اؤتمنوا لم يخونوا، بل يؤدونها إلى أهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك، لا كصفات المنافقين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان”.

إن خيانة الأمانة من علامات النفاق، ولا يحل لأحد أن يخون الأمانة، سواء كانت قولية أو فعلية، لأنه إن فعل ذلك كانت فيه علامة من علامات النفاق، وأمرنا بالأمانة ونُهينا عن الخيانة حتى في معاملة الخائن، لأن أخلاق المؤمن لا تتغير، قال صلى الله عليه وسلم: “أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك”. وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان من حقوق الله عز وجل على عباده، من الصلوات والزكوات والصيام والكفارات والنذور وغير ذلك مما هو مؤتمن عليه ولا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغير ذلك مما يأتمنون به بعضهم على بعض من غير اطلاع بينة على ذلك، فأمر الله عز وجل بأدائها فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة.

فالأمانة ليست مقصورة على الودائع كما يفهم بعض الناس وإن كانت الودائع من الأمانة، إلا أن الأمانة تشمل كل ما افترضه الله علينا وكل ما أمرنا بحفظه، فالعبادات أمانة، الوضوء أمانة، الصلاة أمانة، الصيام أمانة، الزكاة أمانة، بر الوالدين أمانة، جوارحك أمانة، عقلك أمانة، وقتك أمانة، أموال الناس أمانة، الحكم أمانة، وغير ذلك من الأمانات التي يجب علينا أن نحافظ عليها، ولا نتعدى عليها.

ومن الأمانات أموال الدولة، والأدوات التي يستعملها الموظف ولو كانت شيئا يسيرا كالقلم أو الورقة، فلا يجوز التفريط في شيء منها، أو استعماله لمصلحته الخاصة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “منِ استعملناه منكم على عمل، فكتمنا مخيطا فما فوقه؛ كان غلولا يأتي به يوم القيامة”.

والوظيفة والمهنة أمانة يجب علينا أن نؤديها كاملة وبإتقان وإخلاص، ولذلك لما سأل أبو ذر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعمله، ضرب بيده على منكبه وقال: “يا أبا ذر، إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها”.

ونقيض الأمانة الخيانة وهي عدم نصح صاحب الأمانة، بتضييعها والغدر بصاحبها الذي يعتقد أن من ائتمنه سيحفظ أمانته. قال القرطبي في تفسيره: والخيانة: الغدر وإخفاء الشيء، ومنه: {يعلم خائنة الأعين}، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: “اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة فإنها بئست البطانة”. ومن صدرت منه خيانة، فالواجب عليه أن يتوب إلى الله توبة صادقة، ومن صدق توبته ردّ الحقوق إلى صاحبه. ولنعلم أنه إذا ضُيعت الأمانة في المجتمع، تأثر ذلك المجتمع تأثرا عظيما: تأثرت القلوب، تأثر سلوك الناس فيما بينهم.
ومن آثار تضييع الأمانة في المجتمع: ضعف الوازِع الأخلاقي، وعاشت المجتمعات في فوضى أخلاقية، وانتشرت الأمراض النفسية والسلوكية؛ الكذب، وكثر التشبه بخصال المنافقين، وفشت العداوة والبغضاء، وكثر التنافس والتحاسد على الدنيا، وتفككت العلاقات الاجتماعية، وفقدت الثقة بين أبناء المجتمع، وتفشت منكرات القلوب مِن الغل والبغضاء والتناحر. وكذلك الشقاء في الدنيا وفي الآخرة، ومِن أعظم الشقاء العاجل ما يحل بالمجتمع من فقدان الأمانة، من الضيق في الحياة، والنكد والقلق، عدم إجابة الدعاء، بل يتعدى الشقاء الدنيوي إلى الشقاء الأخروي، وما توعد الله عز وجل به العصاة الذين خانوا الأمانة وضيّعوها، قال النبي عليه الصلاة والسلام: “إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان بنِ فلان”.