+ -

 إن ولي الأمر (السلطان) هو إمام المسلمين وصاحب السلطة فيهم؛ لأنه كما قال أبو بكر بن العربي: “السلطان نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب له ما يجب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من التعظيم والحرمة والطاعة، ويزيد على النبي صلى الله عليه وسلم لا بحرمة زائدة، ولكن لعلة حادثة بأوجه منها؛ الصبر على إذايته، ويدعى له عند فساده بصلاحه”.

لأنه هو الذي يرعى مصالحهم ويدير شؤونهم، وهو المسؤول الأول عن ضبط أوضاعهم وأحوالهم، ولهذا منحته الشريعة سلطة تقدير الأمور والحكم عليها وتقرير ما هو مناسب لشعبه وبلده، فكل ذلك داخل تحت سلطته وهو صاحب القرار فيه، على ما يقتضيه جلب المصالح ودرء المفاسد وفق الضوابط الشرعية، وليس ذلك موكولا إلى استزلال هوى أو باطل شهوة منه، بل باجتهاده المستند إلى مشورة أهل الحل والعقد وعرفاء الأمة وخبرائها في ذلك الاختصاص، قال ابن عاشور: “لا بد لولاة الأمور في مثل هذه الحوادث من جمع علماء الشريعة وعرفاء الأمة لينظروا في تحقق صفة الفعل وتطبيق القواعد الشرعية عليه، كما هي قاعدة الشورى، فإذا تبيّن لهم أن في الفعل مفسدة عارضة له، فالواجب النظر في إزالة العارض، وإن وجدوا العارض ملازما للفعل الأصلي، تعيّن عليهم النظر في كثرة الملازمة وندرتها على قاعدة أصل سد الذريعة”، والقاعدة في ذلك: “أن كل من ولي شيئا من أمور المسلمين عليه أن يكون تصرفه مبنيا على المصلحة العامة، فإن لم يكن كذلك أصبح تصرفه غير جائز شرعا”. فقد سئل الشيخ الطاهر ابن عاشور عن مسألة مفادها: هل لولي الأمر أن يمنع الناس من الوقف؟ فأجاب: “إذا كان الوقف بنوعيه جائزا في الشريعة الإسلامية، وكان من عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل أصحابه، وأجمع عليه علماء الأمة، فليس للملوك ولا للحكام المتشرعين أن يمنعوا الناس منه، وليس ذلك من التصرف بالسياسة الشرعية؛ إذ السياسة الشرعية هي التصرفُ في عموم مصالح الأمة مما زاد على القضاء، كما أشار له القرافي في السؤال الرابع من كتاب الأحكام، وفي طالعة الفرق الثالث والعشرين والمائتين، ومثل له بتدبير أمور المسلمين وحاجاتهم، وقد أشار هنالك إلى أن المباحات ليس لوليِ الأمر تحجيرها إلا إذا حفت بها مفسدة.

وقد علمتَ مما قدمناه أن الحبس لا مفسدة فيه، فليس تحجيره بحق لوليِ الأمر، على أنه لا يكفي في إثبات كون شيء مفسدة أن يعتقد ذلك رجل أو رجال، أو يشيروا به على ولي الأمر، فقد قال سهل بن حنيف رضي الله عنه، وهو من أهل بيعة الرضوان: (اتهموا الرأي)، وهذا يسري على الولاية العامة وما دونها من سائر الولايات، ويندرج هذا المعنى في سلم الرعاية المسؤولة الواردة في التوجيهات النبوية، حيث قال صلى الله عليه وسلم: “ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”، وعلق الماوردي على هذا الحديث فقال: “وينبغي للملك أن يقيم رعيته مقام عياله واللائذين به في ارتياد موادهم وإصلاح معاشهم والإحسان إليهم وحذف الأذى عنهم، ولا يهمل حالهم ويصرف نفسه عن تفقد شأنهم، فيصيروا رعية قهر، وفريسة دهر، تتشذب أحوالهم غفلة السلطان، وحوائج الزمان”، وانبثاقا من هذا المعنى، قال ابن تيمية: “فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها”.

ولكن هناك مسألة مهمة يجب الإشارة إليها، وهي: هل لولي الأمر أن يحمل الناس على القول الضعيف المرجوح، مثل قول القاضي شريح مثلا بعدم جواز الحبس؟ والجواب على هذا السؤال هو: إن كان القول الضعيف له دليل وجيه، إلا أن دليل غيره أرجح منه، فالواجب استشارة علماء الأمة حتى يشهدوا بأن في الحمل علية مصلحة معتبرة؛ لأنه يجب على ولي الأمر إن كان من رجال العلم بالفقه والشريعة أن يستشير غيره، لاحتمال أن يخطئ في نظره، وليس الخطأ في مصالح الأمة بالأمر الهيّن، وإن لم يكن عالما فوجوب الاستشارة عليه أشدّ، وعدوله عنها تعريض بمصالح الأمة للإضاعة، وذلك ينافي ولاية أمور المسلمين. فقد اتفق علماء الإسلام على أن ولاة الأمور لا يجوز لهم التصرف في شؤون الأمة بمجرد الشهوة والهوى، بل الواجب عليهم توخي المصلحة الراجحة والمساوية، وهذا الحمل من قبيل ما يسمى عند المالكية بالعمل، إذا أذن به السلطان أو حكم به ثلاثة قضاة من قضاة العدل، ومنه عند الحنفية ما يسمى بالمعروضات، وهي معروضات أبي السعود، وإن كان القول الضعيف واهي الدليل مختل المدرك، وذلك إذا صار بحيث لو حكم به الحاكم لنقض حكمه، فهذا ليس لولاة الأمور حمل الناس عليه؛ لأن إلزام ولاة الأمور الناس بالجري عليه ضرب من الحكم، وقد تقرّر أن حكم الحاكم بالقول الواهي المُدرَك يُنقَض، ولا يرفع الخلاف.

* رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر