38serv

+ -

إن مسالك السماحة واليسر ووجوههما، كثيرة في هذه الشريعة، وأذكر منها ما يأتي: إن الله سبحانه وتعالى لم يجعل ما فيه مشقة على العباد مما تتوقف عليه الطاعات، والأعمال الداخلة في العبادة كالشروط والأركان، فقد قال صلى الله عليه وسلم: “لولا أني أشق على أمتي لأمرتها بالسواك عند كل صلاة”، والمعنى من هذا الحديث لائح وواضح في عدوله صلّى الله عليه وسلم، في جعل السواك من فرائض الصلاة وشروطها، وذلك للمشقة التي قد تلحق المكلفين بذلك، وهو مناف لما أسست عليه هذه الشريعة الغراء من التيسير، ونظير هذا قول عائشة: “أعتم النبي صلّى الله عليه وسلم بالعشاء حتى ذهب عامة الليل، ثم خرج فصلى، ثم قال: “إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي”.

خطابه سبحانه وتعالى للمكلفين على قدر ميزان العقل الذي أودعه فيهم، وهيأه لاستقبال هذه الرسالة قبل أن يدركوا دقائق الحكمة وتفاصيل الكلام والفروع والأصول، فهذا الرسول صلّى الله عليه وسلم يسأل المرأة: أين الله؟ فتشير إلى السماء، فيقول: “هي مؤمنة”، كما أنه صلّى الله عليه وسلم لم يكلف أصحابه في معرفة القبلة وأوقات الصلاة أن يكون متمكنين من علم الفلك والهندسة وغيرها، فقال في ذلك: “القبلة ما بين المشرق والمغرب”، وقد قال مبينا لهم وقت الحج والفطر بأبسط ما يتفق مع عقولهم: “الحج يوم تحجون، والفطر يوم تفطرون”.

جعل ما يرغب فيه الناس من قبيل الطاعات، وذلك لكي تتضافر الرغبة الذاتية للمكلفين مع واجب الاستجابة للشرع على عمل واحد، فيكون أداؤه سهلا، قال الدهلوي: “أن يسن لهم من الطاعات ما يرغبون فيه بطبيعتهم لتكون الطبيعة داعية إلى ما يدعو إليه العقل فتتعاضد الرغبتان”، وبناء على هذا المعنى سن تطييب المساجد وتنظيفها، وسن للمكلفين الاغتسال يوم الجمعة والتطيب فيه، ومن هذا القبيل استحب التغني وتحسين الصوت في الأذان، ولما كان من طبائع النساء حب التزين والتجمل في المظهر والمنظر جعل ذلك واجبا عليهن لأزواجهن، وحرم عليهن لغيرهم، وذلك لما يفضي إليه من الفساد في الغير، والحرج الذي يدخل على الناظر إليهن.

جعل الأشياء التي تميل إليها فطرة الناس من قبيل الطاعات، حتى لا يحس المكلف، في أثناء القيام بتلك الطاعات أنه قد خرج من وضعه المعتاد إلى وضع آخر، قال الدهلوي: “ومنها أن يجعل الشيء من الطاعات رسوما يتباهون بها، داخلة فيما كانوا يفعلونه بداعية من عند أنفسهم، كالعيدين والجمعة، وهو قوله صلّى الله عليه وسلم: “ليعلم اليهود أن في ديننا فسحة”، فإن التجمل في الاجتماعات العظيمة والمنافسة فيما يرجع إلى التباهي ديدن الناس”.

ومن وجوه التيسير في الشريعة أنها عمدت إلى ضبط أعمال البر والطاعات والعبادات بأركان وشروط وآداب، ولم تتركها مفوضة إلى عقول المكلفين حتى يسهل أداؤها، وفي الوقت نفسه نجدها لم تضبط تلك الأركان والشروط والآداب ونحوها شديد الضبط، بل تركت ذلك مفوضا إلى عقول المجتهدين وما يفهمونه من الألفاظ الدالة على ذلك، لتساير الشريعة أحوال الزمان والمكان دون خلل يلحقها أو يلحق الملتزمين بها، ألا ترى أن استقبال القبلة شرط، لكنه لم يحدد له قانون يعرف به، كما أن نصاب الزكاة جعل مائتا درهم، لكن لم يبين الدرهم ما وزنه، كما أن الشريعة قد أوجبت المهر في النكاح، لكنها لم تحدد له قيمة معينة، وإنما ترك ذلك محمولا على أحوال الناس ومعاشهم، واكتفى صلّى الله عليه وسلم فيه بالتنبيه على أن المهر إن كان فيه شيء من الرفق، فإن ذلك سيكون مدعاة للبركة في الزوجة، حيث قال: “خير النكاح أيسره”، وبناء عليه فلو ضبطت هذه الأركان والشروط والآداب ونحوها على التفصيل المدقّق لصار في حفظ تلك الحدود على تفاصيلها حرج شديد، ولاتجه الناس إلى شكليات الضبط وتخلوا عن معاني هذه الأعمال، قال الدهلوي: “فالناس إذا اعتنوا بإقامة ما ضبط به البر اعتناء شديدا لم يحسوا بفوائد البر، ولم يتوجهوا إلى أرواحها، كما ترى كثيرا من المجودين لا يتدبرون معنى القرآن لاشتغال بالهم بالألفاظ، فلا أوفق بالمصلحة من أن يفوض إليهم الأمر بعد أصل الضبط”.

*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر