38serv

+ -

تعود “بونة”، بعد غد الخميس، لتفتح باب الفن عبر قاعاتها على البحر الأبيض المتوسط، أمام الحضور من بلدان شتى، وتكرّم فنانين رحلوا اعترافا بجميل صنيعهم. تعيد وزارة الثقافة روح الكاميرا إلى عنابة مرة أخرى، في طبعة متجددة وجديدة حملت صيغة المهرجان المرسم بدل الأيام التي أشعلت شمعتها الأولى سنة 1986، ورحلت بعد مقاومة رهيبة للوضع المالي والأمني، لتستسلم في الأخير مع آخر دورة سنة 1998. استلهمت الطبعات الثلاث السابقة لأيام الفيلم المتوسطي التي انتظمت على فترات متباعدة بين سنوات 1986 إلى غاية 1997، قدسيتها من مقدرتها على قيادة انتفاضة ثقافية في شرق الجزائر وحوض المتوسط، فكانت بمثابة الـ”بروجكسيون” كالذي حمله “التريتون” الذهبي الذي مثل جائزة الدورات الأولى، وهو مجسم لاهوتي يؤرخ للديانات القديمة، تماما كما أرخت التظاهرة لـ”بونة” الحديثة التي شكلت منطقة رسو ثقافات الحضارات القديمة، قبل أن يرسو بمينائها “انتونيو برديم” ويفاجئ عملاق الشاشة العربية فريد شوقي، عفاف شعيب ويوسف شاهين الجمهور بالخروج من هالة فضية الشاشة إلى نور “هيبون” فحضورهم عد من منظور المشاهد الجزائري بمثابة الحلم، لذلك يمتزج حديثهم اليوم عن الحدث بالسرور والأسى، مع طغيان حنين كبير يحمله “العنابية” لتلك الفترة، ولأسماء شكلت علامات متميزة احتفظت بها قاعة “سينماتيك” وفندق (بلازا) وقلب عنابة (الكور). سعت “الخبر” لأجل ذلك لجمع جزء من شتات ذاكرة “لالة بونة” ومعرفة صداها الذي أعاد مصر إلى ساحة السينما العربية، بعد أن كانت على الهامش، وعن السينما الجزائرية التي تبعث من جديد من بين سنوات الجمر والنار وقلة الحيلة، تنتصر على دعاة حجب حرية الفكر وتفند مزاعم دموية الجزائر.         مهرجان ولد كالحلم  في مقهى صغير يشتهر باسم “كاليبسو”، التقينا السيد سعيد دحماني الذي نكنّ له كل التقدير لما زودنا به من معلومات وافية شفوية ومكتوبة عن الطبعات السابقة وما يحتفظ به من وثائق، رغم أنه يشعر بالندم لتسليمه بعضا منها لجهات ما، حيث يرى أن جزءا من ذاكرته تساقط لفقدها. حدثنا دحماني الذي يعد أحد أعضاء لجنة تحضير التظاهرة، إضافة إلى المرحوم شطيبي وجمال مرير، عن الكثير من التفاصيل منذ اختيار التسمية التي كانت “أيام سينما البحر المتوسط” واقترحها أحد نواب المجلس البلدي المكلف بالشؤون الثقافية لبلدية عنابة، قال إنه طرحها في عام 1986 وسرعان ما احتوتها كل الأطراف ونضجت وتحولت إلى حقيقة، ويظهر ذلك من خلال جهود المنتخبين ومدير “سينماتيك” المرحوم عمار شطيبي، حيث تزامنت الطبعة الأولى مع فصل الربيع بين شهري مارس وأفريل، يقول: “لا أذكر تحديدا الشهر”، لكن شارك في تحضيرها صحفيون وكتاب ومؤرخون وفنانون، وكل مهتم بالشأن الثقافي والسينمائي، فكان لذلك دور في خلق شبكة علاقات مع المشرق ودول المتوسط، فكل ساهم بالقدر الكافي لتحفيز المخرجين والفنانين العرب والأجانب من إيطاليا وإسبانيا وفرنسا على المشاركة في الطبعة الأولى التي كانت أكبر امتحان لتبلور فكرة بدت حينها كـ (الحلم). انطلاقة عالمية وعودة مصر بعد اغتيال الساداتحملت الطبعة الأولى 1986 مخاوف وآمالا، لكنها كانت، حسب وصف الدكتور دحماني، “ناجحة” خاصة من حيث الحضور النوعي لكبار المخرجين العالميين الذين تداولوا على منصة المهرجان، من بينهم المخرج الإسباني أنتونيو برديم الذي اشتهر بعمله (لا فونجونزا)، ورغم تقدمه في السن لكنه قرر المشاركة واستجاب للدعوة. ومن الفنانين العرب أسد الشاشة العربية فريد شوقي ومحمود ياسين، عمار العسكري ويوسف شاهين، ويعقب على ذلك قائلا: “إحضار يوسف شاهين ليس بالأمر الهين”، وذكر أن الجمهور احتفى أكثر بالعرب وتتبع آثارهم من قاعة السينما إلى فندق “بلازا” محل إقامتهم وسط المدينة، خاصة أن المسافة بينهما قريبة. ويشير المتحدث وقت تحضير الطبعة الأولى للأيام السينمائية المتوسطية على الصعيد العربي والعالمي إلى بعض الأحداث التي ألقت بظلالها على واقع السينما العربية بشكل خاص، حيث تسعى كل دولة لدفع عجلة إنتاجها السينمائي نحو العالمية، والخروج من دائرة الأفلام التسجيلية والوثائقية إلى خلق طرق أكثر ابتكارية، حيث تأثرت مصر والدول العربية، كما ذكر الدكتور دحماني، باغتيال زعيمها أنور السادات 1981، ما جعلها تعيش نوعا ما على الهامش، لذلك يرى الباحث الدكتور دحماني، المختص في الآثار، أن مشاركة مصر في هذه الأيام السينمائية المتوسطية كانت بمثابة عودة لها إلى السينما.      1997.. يوسف شاهين والخوف من (الدم للركب)جاءت الطبعة الثانية من تظاهرة أيام الفيلم المتوسطي في عام 1988، وفقا للاتفاق المبدئي الذي تم بين القائمين عليها بأن تقام كل سنتين، وأدارها شطيبي بمشاركة مجموعة من الشخصيات، لذلك رأى دحماني ضرورة تكريم مهندس الأيام عن طريق إطلاق اسمه على (سينماتيك) عنابة، كون شبكة العلاقات التي ربطها مع مخرجين وفنانين عالميين كانت سببا في الحضور النوعي والمكثف وتعزيز حضور المهرجان، والاعتراف بفضله في إثراء السينما في إفريقيا بشكل عام، ويربط بين ظروف أمنية عاشتها الجزائر منذ الثمانينات وماتزال تتواتر حتى زمن تنظيم الطبعة الثالثة والأخيرة في الفترة الممتدة من 16 إلى 24 جويلية سنة 1997، يقول دحماني إن تحضيرها شكل (نوعا من التحدي) وسجلت حضور وجوه عادت مرة أخرى بعد انقطاع طويل نوعا ما، فحضرت عدة أفلام ليوسف شاهين، ميشال خليفة، فريد بوغدير وحفصة قوجيل زيناي المخرجة الجزائرية التي شاركت بفيلم حول الإرهاب، والمخرج لخضر حامينا كما حضر عدد من الأجانب رغم المخاوف. ويضيف دحماني أن المخرجين والفنانين الأجانب والعرب وخاصة التونسيين قدموا دعما كبيرا للمهرجان في تلك الطبعة، وتحدث عن رحلة قادته رفقة العيد قابوش إلى تونس لتأجير بعض الأفلام، كلنا تفاجأنا بكرم “التوانسة” الذين منحوهم شاحنة محملة بالأفلام مجانا.  يؤكد محدثنا على الضرر الذي ألحقه الوضع الأمني بالسينما، وجعل المخرج المصري يوسف شاهين كما روى، يصرح بسبب خوفه “لا نريد أن نكون تكلفة على الجزائر لحراستنا”، مضيفا أن هذا لم يثن سيدات أجنبيات عن الخروج والسير  في شوارع عنابة بلا خوف، رغم أن الطبعة الثالثة جاءت وسط تهديدات للجماعات التي رأت في الحديث عن الفن “كفرا”، فتم بفضل المهرجان كسر حاجز الخوف وتغيير صورة الجزائر ومقولة إنها تعيش في بحر من الدماء، وفقا للعبارة الشعبية (الدم يجري في لبلاد للركب).عرس (بونة) انتصار للقطاع الثقافي غير الرسميمن الصعب جدا احتواء ما حصل في ولاية عنابة خلال تلك الفترات المتباعدة من تنظيم أيام الفيلم المتوسطي، ومن تحدثت إليهم “الخبر” كانوا يتفاجأون من السؤال عن “عرس بونة” الجميل والحديث عن الشارع “العنابي” وعن نخبة المجتمع كيف احتوت التظاهرة التي شكلت رمزية فنية متفردة، من حيث الحضور والتقارب بين الجمهور والشخصيات والديناميكية التي خلقتها التظاهرة في الشارع، حتى أن أحد سائقي سيارات الأجرة عندما طلبنا منه أن يقلنا إلى “سينماتيك” عنابة، قال مع تنهيدة طويلة “ياه فكرتيني بصغري وأيام كنت نروح للسينما”، وعلقت على ذلك دون الإفصاح عن سبب توجهي إليها (ربما ستعود إليها قريبا).  يعتبر “العنابية” ومن بينهم دحماني أن انتصار التظاهرة يحيل إلى انتصار القطاع الثقافي غير الرسمي، فكل من شارك فيها من فنانين ومؤرخين وكتاب ومبدعين يعود الفضل إليهم في نجاحها المتواصل، ويتأسف لأنه باعتباره (مؤرخا) وغيره لم يؤرخوا لذاكرة الأيام السينمائية وذاكرة النشاط الثقافي للمدينة، ومع ذلك فهو يرى أن ما تتوفر عليه مديرية الثقافة من أرشيف قد يغني، خاصة مع تحقق هدف التظاهرة لتمرير رسائل وتثبيت مواقف عن كون السينما صورة لها دلالة، إنها (قطعة) من ثقافة المجتمع.   واعتبر الباحث حمداني أن تأثير أيام الفيلم المتوسطي كان واضحا جدا داخليا وحتى على المستوى العربي والمغاربي، وتأسف لتراجع مهرجان عنابة، وأثر هذا التراجع على المشهد الثقافي عموما بالولاية التي تشكل نقطة تتقاطع فيها ثقافة المتوسط، والتي شكلت حتى وقت قريب تظاهرة (عالمية) رغم محدوديتها إقليما.حين صمتت “بونة” عن الكلام المباح سنة 1998تعتبر سنة 1998 سنة انتكاسة حقيقية لتظاهرة أيام الفيلم المتوسطي، بعد طبعات ثلاث كان لها بلا شك تأثيرها الإيجابي، وكانت لها حركيتها الثقافية والمجتمعية، طبعات اتفق على أن تتواصل حتى لو تباعدت، وكان يفترض بناء على توصيات الطبعة الثالثة والأخيرة أن تنظم الرابعة في 1998، التي حالت الظروف دون تحقيقها، وهي الظروف نفسها التي عصفت بحلم تنظيم الطبعة الرابعة سنة 2002. ورغم تشكيل لجنة التنظيم والجزم بالشروع في التحضير، لكن شيئا لم يحدث، قد تكون أسباب واهية جدا كما فهمنا من بعض محاورينا وراء وأد المهرجان، وبذلك لم تستطع عنابة أن تحافظ على جهود مؤسس التظاهرة عمار شطيبي الذي توفي سنة 2006 بسكتة قلبية، وهو من أراد أن يجعل الثقافة والفن بشكل خاص رافدا يربط ويغذي كل القطاعات التي تضافرت ذات يوم على صياغة خريطة المهرجان، ويلقي المهتمون باللائمة في ذلك على تراجع دور السلطات في عنابة، وكذا لعدم قيام الوزارة بدور جدي، إضافة إلى العائق المادي والرغبة في تحويله إلى وجهة أخرى.أيام الفيلم المتوسطي لم تكن مؤسسةتحدث مدير الثقافة لولاية عنابة، إدريس بوذيبة، وهو يستقبلنا في مكتبه رفقة محافظ المهرجان سعيد ولد خليفة، عن الطبعات السابقة التي يعدها من الماضي، وهي طبعات كما قال لم تكن مؤسسة، كما هو حال المهرجان الحالي الذي يقوم على أنقاضها وعلى مجهودات سابقيه، وتمت بمبادرات محلية، ولأنها سجلت نجاحا في وقتها وتركت بصماتها، فهذا ما شفع لها لإعادة بعثها في شكل مهرجان مؤسس، وهذا بعد قبول الوصاية واستجابتها، كما ذكر، لطلب سكان عنابة وفنانيها، ورأى أنه من الإنصاف تأسيس مهرجان للسينما بالولاية تكريما للمجهودات السابقة، وهو يقر في نفس السياق بالفرق الذي سيظهر بين الطبعات السابقة التي كانت بشكل متباعد وبمبادرة من الهواة والمحبين للفن السابع وبين الحالية، وهو نفس ما ذهب إليه ولد خليفة بقوله إنها مبادرة من هواة، ولم يكن لها مصدر مالي ثابت، حيث تأتي فكرة تأسيسه حرصا على ديمومته، وهذا ما سيجعل منه، بتعبير بوذيبة، مهرجانا غير مرتبط بالأشخاص ولا بالأمزجة. فندق “بلازا” شاهد على عرس عنابةقبل أن ننتقل إلى فندق “بلازا” سابقا والذي يحمل اليوم تسمية “سيبوس”، فضلنا التوجه إلى “سينماتيك” عنابة الواقعة أعلى الشارع الرئيسي الشهير بـ”الكور”، حيث يجتمع سكان “بونة” وكل الوافدين عليها في الساحة الرئيسية التي تشبه إلى حد بعيد “أغورا” اليونانيين القدامى. كان مقر السينما يخضع لعملية ترميم وتهيئة، حتى يكون في مستوى استقبال الحدث المنتظر بعد غد الخميس، وعندما سألنا مسؤولة المنشأة عن إمكانية مساعدتنا في تحضير الموضوع قالت إنه وكما يبدو السينما قيد التهيئة، وما كانت تحتويه من وثائق وأغراض تم تحويله إلى مديرية الثقافة، خاصة ما تعلق بالصور والمطويات المؤرخة للحدث.  عرجنا في طريقنا باتجاه فندق “سيبوس” الذي كان على بعد أمتار قليلة، وهو الذي احتوى جانبا هاما من يوميات الفنانين والمخرجين، استقبلنا مسؤول مصلحة المستخدمين (وهاب كان عمره 26 سنة في أول طبعة) وتفاجأ بسؤالنا، ثم استعاد تفاصيل الطبعة الأولى، عادت الصور تباعا إلى ذاكرته وفي لمح البصر، وبدأ يسرد تفاصيلها “الفندق، تجمع الفنانين، الناس واكتظاظ المصعد، وكثرة سهر الفنانين والمخرجين، لم يستطيعوا النوم، ومن يرغب في النوم وسط هذا الزخم من المشاعر والضيافة والإحاطة الشعبية؟”، قال وهاب، مضيفا: “أذكر أننا التففنا بشكل خاص حول عملاق الشاشة المصرية فريد شوقي، وكانت لنا لقاءات مع الفنان الجزائري الشهير باسم الدايم”، كما يروي ما حصل مع فريد شوقي وهو يضحك، بعد أن كثر حوله المعجبين، فقال إنه “قام بطردنا من غرفته بعد أن قصدناه لالتقاط صور معه، حيث وجدناه يرتدي (جلابية) وفقا للتعبير المصري، كما التقينا مع الفنانة عفاف شعيب. ركزنا كثيرا على الفنانين المصريين ولم نهتم بنفس القدر بالأجانب، وحتى هم كانوا شعبيين وكانوا يرحبون كثيرا بمعجبيهم ويلتقطون معهم الصور”، وسرعان ما عاد يبتسم وهو يتذكر ما حصل مع فريد شوقي.تسبب الحضور المفاجئ للفنانين والمخرجين لولاية عنابة، حسبما روى محدثونا، حالة أقرب إلى الهستيريا، حيث أصر الناس على تتبع الفنانين وخاصة منهم العرب إلى أي مكان كانوا يقصدونه، وظلوا موزعين بين قاعة “سينماتيك” وفندق (بلازا) وفي الشارع، حيث عاشت (بونة) للمرة الأولى حدثا بهذا الحجم. “صدى عنابة” توثق للطبعة الثالثةعمد القائمون على التظاهرة إلى توثيق جانب هام منها في صفحات “صدى عنابة” التي تضمنت معطيات تتعلق بالمنظمين وكلمات للمسؤولين المحليين ولأبرز المخرجين، كما تضمنت مجموعة من المقالات في مجالات مختلفة، وحوارات مع مخرجين وفنانين، وقراءات في سيرهم منهم رويشد وحسن الحسني، فتنوعت المادة الثقافية التي احتوتها دفتا العدد الذي حمل عنوان (صورة وأضواء متوسطية) منها: الجزائر الساحلية قراءة في التطور التاريخي لعمار بلحسن، السينما الجزائرية لشريبط احمد شريبط، عنابة الجميلة لعبد الحميد شكيل، كما عاد العدد للتذكير بالجزائر وبما تحتويه من تاريخ معبر عنه بشخصيات وحضارات تعاقبت على الجزائر. كما اقترحت أيام الفيلم المتوسطي تجديد تقاليد التبادل متعدد الأشكال في الفن السابع، ويكون ثقافيا، وفقا لعلاقة احتكاك بين المنتجات السينمائية، والمقارنة بين سينما ضفتي المتوسط الجنوبية والشمالية وبين المواضيع والاتجاهات المهيمنة، لينظر إليها كإطار دائم للتفكير والدراسة في البحث لتحقيق تطور إيجابي للسينما، وداخليا ترقية الجمهور الجزائري وتمكينه من التفتح أكثر، وائتلاف واسع بالتعابير السينمائية، ورفضت كل احتكار للسينما من طرف شركات كبرى، وطالبت بالعمل على إيجاد وسائل وحلول لتحرير الإنتاج من ثقلها من جانب المواضيع والتوزيع، بفرض البحث عن إقامة شبكة توزيع للمتوسط، عن طريق تشجيع الإنتاج المشترك على مستوى التمويل والتبادل التجاري المتوسطي.    

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات